السيطرة علي الارتفاعات المتتالية في أسعار الغذاء في أسواق التجزئة المصرية تبدأ أولا من زيادة إنتاجنا للغذاء خاصة من السلع الأساسية الاستراتيجية الست التي نستورد الجزء الأكبر منها من الخارج وهي القمح حيث نستورد 70٪ من احتياجاتنا ثم الذرة (50٪) والفول (55٪) والعدس (98٪) والسكر (32٪) والزيوت والتي تصل وارداتنا منها إلي 90٪ وأخيرا اللحوم التي نستورد منها نحو 30٪ من الخارج. ثم يأتي الجزء الثاني بحوكمة أسواق التجزئة للغذاء وعدم ترك الأمر كليا في يد القطاع الخاص وحده اعتمادا علي المنافسة الشريفة التي لن نصل إليها لا في مصر ولا في الدول النامية طبقا لتقارير منظمة الأغذية والزراعة والبنك الدولي. الجزء الثالث يتمثل في وضع حد أقصي للربح علي الغذاء المستورد وهو الأمر الذي تطبقه الإمارات العربية المتحدة منذ أزمة الغذاء العالمية ومؤخرا المملكة العربية السعودية والتي فرضت حدا أقصي للربح علي وارداتها من الشعير كأكبر دولة مستورده له وذلك بعد الارتفاعات المتتالية في أسعار اللحوم في الأسواق السعودية. الأمر لا يبدو واضحا في مدي جديتنا في سد الفجوة الغذائية المصرية والتي تتجاوز 50٪ من مجموع استهلاكنا بتشجيع المزارعين علي زراعة الحاصلات الغذائية الأساسية واقرب مثال علي ذلك ما يحدث حاليا في موسم الزراعات الصيفي حاليا حيث قُلصت المساحات المزروعة بالأرز إلي النصف وكان الأمل يحدونا في استغلال ما توافر من مساحات الأرز في زراعة الحاصلات الصيفية الاستراتيجية الأساسية وهي الذرة الصفراء الخاصة بإنتاج الأعلاف النباتية حيث تشكل نحو 80٪ من مكونات العلف والتي نستورد منها أكثر من 5.5 مليون فدان سنويا، أو التحول أيضا إلي زراعة حاصلات الزيوت من عباد الشمس وفول الصويا والتي نكاد نستورد أكثرمن 90٪ منها من الخارج إلا أن السياسة المتبعة لم تخطط لهذا الأمر ولم تعط بدائل لزراعات الأرز بالإضافة إلي ما توافر من زراعات القطن والتي تقلصت مساحات زراعاته أيضا بشكل كبير يتطلب وقفة جادة. فالسياسة الزراعية تمثلت في الحد من زراعات الأرز والإعلان بوضوح بأن الدولة قد لا تتسلم الذرة من المزارعين هذا العام أسوة بما حدث في العام الماضي حيث حدد للمزارعين توريد 5 أرادب فقط للفدان من غلة الفدان التي تتجاوز 30 أردبا!! وذلك نتيجة لوقف خلطة بالقمح لإنتاج الرغيف المدعم وهو الأمر الذي كان يوفر من 10 - 20٪ من وارداتنا من القمح (نحو 2 مليون طن) ويدفعنا إلي استيراد الأنواع الجيدة من القمح الصالحة لهذا الخلط وبالتالي فعلي المزارع أن يبحث بنفسه عن وسيلة لتسويق محصوله بعيدا عن الدولة. وبالمثل أيضا الإعلان والتأكيد علي صعوبة تسلم الدولة لمحصولي عباد الشمس وفول الصويا لاستخراج الزيت من بذورها نتيجة لتفضيل مصانع إنتاج الزيوت في مصر لاستيراد الزيوت الخام من الخارج والاكتفاء بتكريرها حتي أن معظمها لا يمتلك معاصر للبذور لاستخراج زيوت الطعام منها. يضاف إلي هذا عدم التشجيع علي التوسع في زراعات القطن والذي تقلصت مساحاته إلي حدها الأدني وهو المحصول الذي كان يعمل كمحصول كساء وغذاء وعلف حيث تستخدم ألياف القطن في صناعات الغزل والنسيج ومن بذوره يتم استخراج زيت الطعام الفاخر والذي انقرضت معاصره واختفت تماما من مصر وتسبب في تقلص دخل الفلاح من زراعة القطن المكلفة وبالتالي أقلع عن زراعته ثم أخيرا الكسبة الناتجة عن عصر البذور والتي كانت تستخدم كعلف غني للمواشي يحتوي علي الزيوت والدهون والبروتين والعناصر المعدنية اللازمة للتسمين ومثلها ولكن بشكل أقل كسبة بنجر السكر والتي لا نستغلها بالشكل الأمثل أيضا رغم مشاكل نقص الأعلاف والغذاء في مصر. النتيجة الطبيعية لهذه السياسة أو اللا سياسة هو توسع المزارعين في زراعة لب القزقزة والفول السوداني لأغراض التسالي بمساحات وصلت إلي 750 ألف فدان منها أكثر من نصف مليون فدان للب فقط ثم التوسع في زراعات الكنتالوب والبطيخ والقرعيات والبطاطس وغيرها بما تسبب في انهيار أسعارها في أسواق الجملة وتكبد المزارعين لخسارات كبيرة نتيجة لهذا التوسع غير المخطط وغير الدارس لمدي تشبع الأسواق بهذه السلع أو لاحتياجها إلي المزيد. أما عن الجدية في زيادة إنتاج الغذاء من الحاصلات الأساسية للموسم الشتوي والتي تضم عددا أكبر من السلع الأساسية يأتي علي رأسها القمح والفول والعدس ثم بنجر السكر وأخيرا البرسيم. فارتفاع أسعار اللحوم حاليا أدي إلي هرولة التجار إلي المزارعين لحثهم علي التوسع في زراعات البرسيم - والذي يزرع مبكرا عن البرسيم بشهر ونصف إلي شهرين - وسداد دفعات مالية كمقدمات كبيرة إلي المزارعين كربط كلمة للجدية في استلام المحصول وبالتالي فإن المساحات أصبحت معكوسة بين البرسيم والقمح حيث وصلت في الموسم المنقضي إلي 3.5 مليون فدان للبرسيم مقابل 2.5 مليون فدان فقط للقمح وكان صالح الاستقرار المجتمعي يتطلب العكس بأن تكون النسبة الأكبر لزراعات القمح. ثم يأتي بعد ذلك زراعات العدس والتي لا تتطلب أكثر من 50 ألف فدان فقط لتحقيق الاكتفاء الذاتي منه وهي مساحة صغيرة للغاية وأقل من المساحات المخصصة لعدد من المستثمرين في مصر ولكننا لا نزرع من العدس أكثر من ألف فدان فقط بعد كنا نزرع نحو 100 ألف فدان في السابق. ثم يأتي الفول والذي يعد مع العدس والقمح طعام رجل الشارع والغالبية القصوي من الشعب حيث لا يتطلب الاكتفاء الذاتي منه إلا زراعة مساحة 450 ألف فدان اكتفينا خلال الأعوام السابقة بزراعة 190 ألفا فقط بنسبة اكتفاء ذاتي أقل من 50٪ بما أخل بالسياسة الغذائية والزراعية المصرية والتي ترتبط تماما بالأمن المجتمعي وحوكمة الأسعار في الأسواق.