عجيب جدا أمر سياستنا الزراعية والتي تخطط لزراعة المحاصيل الأساسية من قمح وذرة ومحاصيل زيوت ومحاصيل سكرية وفول وعدس خارج الأراضي المصرية علي أن تشتريها بالأسعار العالمية بالاضافة الي ماستتحمله من تكاليف النقل البحري حتي المواني المصرية ومصاريف التفريغ, ثم النقل البري الداخلي الي كافة المحافظات المصرية. وفي الوقت نفسه الذي نخطط فيه لزراعة محاصيلنا الاستراتيجية بالخارج لا نستطيع أن نخطط لهذه الزراعات في وطننا ومانملكه فيه من حرية قرار وسيطرة وأمان وضمان لكامل المحصول ونترك المزارعين يبحثون عن الربح المناسب فينتقلون من زراعة المحاصيل الطبية والعطرية الي التوابل ثم الي اللب والسوداني بكميات قاربت علي الوصول الي ربع المساحة الزراعية دون سيطرة أو حسن تخطيط للتوفيق بين مانزرع ومانحتاج. والأمر الأكيد الذي نحتاجه في مصر هو حظر زراعة لب القزقزة لثلاث سنوات قادمة علي الأقل وسحب تقاويه من السوق لأن الأمر يتعلق بالأمن الغذائي المصري, بالاضافة الي أن استيراد هذا اللب إن كان لابد من استيراده من السودان عبر قوافل الجمال القادمة منها الي مصر سيكون أرخص وأوفر كثيرا وأيضا أكثر اقتصادية وربحا لمستوردي ومصدري الجمال الي مصر. وفي الوقت نفسه فإن مخاطر الزراعة بالخارج مقابل الأمن الكامل للزراعة بالداخل يجب أن تكون محل اعتبار فلا يمكن علي سبيل المثال زراعة القمح في السودان قبل أن تستكمل السودان اكتفاءها الذاتي منه أولا وهي حتي الآن تستورد نحو30% من احتياجاتها منه من الخارج, وبالتالي فليس من المنتظر أن تسمح أي دولة بتصدير سلعة تستوردها من الخارج وتمثل جزءا أساسيا من أمنها الغذائي لأن لا أحد يطعم شعبا آخر قبل أن يطعم شعبه, وبالتالي فإنه حتي رؤيتنا للزراعة في الخارج تحتمل مخاطر كثيرة. فبالاضافة الي ماسبق فإن تكرار أزمة القمح العالمية الحالية بإلغاء بعض الدول المصدرة لتعاقدات الدول المستوردة للغذاء معها, أو عودة أزمة جديدة للغذاء عالميا تكرارا لأزمة عام2008 فماذا يكون الموقف من زراعاتنا في بعض الدول الافريقية أو لدول حوض النيل من زراعتنا للقمح هناك؟!! فهل يسمحون لحاصلات تزرع في أراضيهم وتروي بمياههم بان تصدر الي الخارج وهل يمكن نزع الطعام من يد المحتاج ؟! الأمر يتطلب الاستثمار في سلع تحقق منها الدول المضيفة الاكتفاء الذاتي أولا حتي يكون تصديرها لبلد المستثمر ميسرا ودون عوائق أو أن يكون الاستثمار في حاصلات مربحة تحتاجها هذه الدول مثل الاستثمار في زراعات الوقود الحيوي وإقامة مصانع تكريره هناك تلبية لسوق رائجة في هذه الدول. حتي التفكير المنطقي في الاستثمار الزراعي في هذه الدول يجب ألا يكون مقصورا علي القمح فقط باخطار زراعته في المناطق الحارة الرطبة ولكن الأمر يبدو منطقيا في زراعة الذرة الصفراء والرفيعة الخاصة بانتاج الأعلاف التي نستورد منها5,5 مليون طن سنويا أو زراعة حاصلات الزيوت من عباد شمس وفول صويا وحتي القطن لاستخراج الزيوت من بذرته بالاضافة الي تصدير أليافه حيث تجود زراعة جميع هذه الحاصلات في الدول الافريقية وتحقق منها هذه الدول الاكتفاء الذاتي وتصدر بعضها قدرا منها الي الخارج. ثم يأتي بعد ذلك تربية قطعان المواشي علي المراعي الطبيعية هناك مع إنشاء الوحدات البيطرية المطلوبة للرعاية الصحية والمجازر والمسالخ الخاصة بتجهيز لحوم هذه القطعان لتصديرها إلينا وماينعكس علينا من تقليص مساحات زراعات البرسيم واستبدال بعض منها بالقمح والفول والعدس وبالمثل أيضا فان زراعة الفول والعدس في السودان وبعض دول حوض النيل وهي تحقق فيها اكتفاء ذاتيا ولا تمثل أهمية في نمط غذاء هذه الشعوب, وبالتالي فإن زراعتها لحسابنا لن يعرضنا لمخاطر الاحتياج إليها في هذه الدول. وبالمثل أيضا فإن التفريط في أراضينا الزراعية بكل سهولة باعتماد مخطط كردونات المدن باستقطاع50 ألف فدان سنويا تتحول من أراض زراعية الي مبان ومصانع غير مقبول بالمرة في بلدان تتجاوز فجوتها الغذائية50% من احتياجاتها وتتكون96% من أراضيها من الصحاري القريبة من العمران ولا تبتعد عن أي مدينة أو مركز بأكثر من نصف ساعة فقط بالسيارة أو بشاحنات النقل, والأمر يتطلب حظر وتجريم البناء علي الأرض الزراعية تماما وتحويل البناء عليها الي قضية أمن دولة عليا يطبق عليها قوانين الطواريء لأن الرقعة الزراعية محدودة وثابتة بينما السكان في زيادة مطردة والحاجة الي المزيد من انتاج الغذاء واضحة أمام المخطط لمستقبل أمن الغذاء في هذا البلد. إن هذا التشتت في التخطيط ليس فقط فيما يتعلق بالأمن الغذائي بل انه يمتد الي حقيقة كوننا بلدا صناعيا أو زراعيا, وكأن الأمر يجب أن يقتصر علي واحدة فقط دون الأخري فإما أن نكون بلدا صناعيا أو زراعيا وليس من الوارد أن نكون الاثنين معا, فجميع الدول الصناعية الكبري بدءا من الدول السبع الصناعية الكبري ووصولا بها الان الي مجموعة العشرين فجميعها بلدانا صناعية وزراعية كبري تحتل أسواق العالم بصناعتها المتقدمة وتحتل أيضا أسواق الغذاء يخطط العالم الآن لمستقبل أمني الطاقة والغذاء في عام2050 والتي أثبت تكرار انقطاع التيار الكهربي هذا الصيف وتزايد وارداتنا من الغذاء عاما بعد عام بأن تخطيطنا للمستقبل يحتاج الي وقفة جادة ووزارة فاعلة للتخطيط لمستقبل الحياة في مصر.