يبدو أن المسلمين قد طغت عليهم الماديات، لا تلك التي تنفع الناس وتمكث في الأرض، بل التي هي كغثاء السيل، حيث أفقدت المسلمين روح العبادات فأصبحوا آلات صماء لا تعي مرادات فرائض الله عليهم.. لذلك كان الواجب يقتضي البحث عند العلماء عن أسباب عودة هذه الروح المفقودة ليعود إليهم عزهم القديم.. وليكن البحث عنها في الصيام هو البداية: ليس صائما! يتحدث الأستاذ الدكتور عبدالحكم صالح سلامة الأستاذ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر فيقول: علي خير يعود إلينا رمضان ذلك الضيف العزيز الغالي استثناء في الخريطة البشرية والجغرافيا السلوكية، لأنه يغير منهج الحياة التقليدي حيث تتوقف دقات ساعات العادات التي تسود حياة الإنسان، فيفرض الله في رمضان أن يجوع الملياردير والمليونير تماما كما يجوع المسكين والفقير، والذين يظنون أن الصيام مجرد امتناع عن المقومات المادية للحياة كالطعام والشراب وعن الجنس الذي هو امتداد للحياة يظلمون شعيرة الصيام ويطفئون وهجها ويفرغونها من مضامينها لأنهم بذلك يجعلون الصيام شعيرة خالية من الروح كأنها مجرد أشكال ورسوم يؤديها أصحابها بطريقة جافة لا تحركها طاقات الصيام الروحية والذين يصومون بتلك الصورة ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش. إن الصيام له أبعاده النفسية والسلوكية والروحية، فليس صائما ذلك الذي يصوم ويكذب، وليس صائما ذلك الذي يحتكر السلع ويغش في التجارات ويروج سلعه بالأيمان الغموس، وليس صائما ذلك الذي لا يضبط لسانه عن القيم السلبية في دنيا القول كالغيبة التي تتمثل في أكل لحوم الناس، وكالنميمة التي تسبب الأضغان والأحقاد والاحتقان بين أفراد المجتمع، وليس صائما ذلك الذي يقصر في عمله الذي يناط به والذي يتقاضي عليه أجرا بحجة أنه قضي ليله في تهجد وقيام، إذ المفترض في التهجد والقيام وشتي الشعائر أنها طاقات دافعة إلي إحسان الخلافة في الأرض وتحقيق غايات الله من خلق الإنسان ليتولي التنمية والإنجاز وإثراء الحياة والرقي بها بالكدح والمثابرة والعرق والتعمير. ليس صائما قط ذلك الذي يجلس علي مكتبه كأنه كيان هامد لا روح فيه فيعطل مصالح الناس ويضيع عليهم الفرص ويهدر اقتصادهم ويشل حياتهم. ليس صائما ذلك الذي لا يضيف في يوم صيامه إلي الحياة. والمحصلة أن الصيام شعيرة تعبدية لا تتحقق بمجرد الجوع والعطش وإنما لابد ان تتجسد في دنيا الصائم تحليا بالقيم الخلقية الإيجابية المثمرة البناءة، وتخليا عن القيم السلبية الذميمة ونشاطا وكدحا ومثابرة وعرقا لإثراء الحياة وتنميتها وازدهارها والرقي بها وتطويرها. شهر التخفيف أما د.طه عبدالمقصود الأستاذ بقسم التاريخ الإسلامي كلية دار العلوم جامعة القاهرة فيقول: فرض الله عز وجل صيام هذا الشهر العظيم وجعله شهرا واحدا في العام كله، ولم يفرض علينا صيام أكثر من هذا الشهر تخفيفا علي العباد لأنه سبحانه لا يكلف عباده إلا بما يطيقون استجابة لدعائهم كما في قوله تعالي: »ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به« وهذا شبيه بفرض الصلوات ليلة الإسراء والمعراج فقد كانت خمسين ثم خففها الله إلي خمس صلوات فقط وهذا من رحمة الله بعباده لأنه سبحانه يقول »لا يكلف الله نفسا إلا وسعها« ثم من فضل الله ورحمته علينا أيضا أنه يضاعف الحسنات وأجر الأعمال الصالحة في هذا الشهر أكثر من غيره، ولا شك أن هذا الشهر له روح طيبة بما فيه من عبادات وطاعات كالصيام والقيام وصدقة الفطر وإفطار الصائمين وغيرها من الطاعات وبما وقع فيه كذلك من انتصارات عبر تاريخ الإسلام. ومن روح هذا الشهر أيضا ما يشعر به المسلمون جميعا من مشاعر إيمانية واحدة وإحساس بالوحدة والتعاون علي البر والتقوي والسعي لجبر المحتاجين والتوسيع عليهم، ولا شك أن هذا الشهر ينبغي أن يكون فرصة طيبة لنا جميعا للتوبة إلي الله عز وجل والعودة إليه والإقبال عليه بترك المعاصي وكثرة الطاعات ليكون ذلك سببا في إصلاح النفس وإصلاح المجتمع ومعالجة كثير من الآفات والأمراض المجتمعية كالغش والرشوة. شهر السمو الروحي ويوضح الباحث الإسلامي نبيل عوض أن الأمر كله يرجع إلي طبيعة الشيء الذي يشغل فراغ القلب، فالقلب كالمرآة، لا يمكن ان تخلو من صورة تظهر علي صفحتها، لذا كان لشهر الصيام هذا الدور المحوري في حياة المسلم حيث ينأي بقلبه بعيدا عن شهوات النفس وملذاتها وتتكثف جرعة الزاد الروحي من صيام وصلاة وقيام وذكر لله تعالي وصدقات واطعام طعام وصلة أرحام ومثل هذه الجرعة المكثفة من التعبد والتبتل في رمضان كمثل العدسة المكبرة التي إذا تجمعت فيها أشعة الشمس امكنها ان تحرق ما دونها.