"يا بلد معاندة نفسها يا كل حاجة وعكسها".. كلمات تغنت بها ريهام عبد الحكيم، واصفة حال مصر، لترسم "الإعلانات التليفزيونية" ملامح مشهد التناقض. فهذا طفل يربط حجر على بطنه من شدة الجوع، وآخر ييفتش بكفه الصغير بين القمامة بحثًا عن "لقمة" تخرس صرخات معدته التي تتعصر جوعًا، وثالث "يتشعلق" في الأتوبيس ليذهب إلى عمله، وهذا يسكن بالقصور تحاوطه عشرات الفدادين من المساحات الخضراء، يمارس الرياضة في النادي، يمتلك سيارة فارهة.
ففي مصر يعيش أكثر من 40 %، بحسب إحصائية لمركز التعبئة العامة والإحصاء، تحت خط الفقر، بعضهم يسكن ب "العشش" وآخرون ب "المقابر"، مياه الصرف الصحي تروي ظمأهم، والقمامة تغذيهم، وقطع من القماش تستر عوراتهم، وعندما يريد أن يمرح أطفالهم، يبحثون عن أي نافورة بجوار منطقتهم ليسبحوا فيها، لتأتي لهم "الإعلانات"، بحياة أخرى كانوا يظنون أنها لا توجد إلا في جنة الآخرة.
"الإعلانات" تطارد المشاهدين، تدعوهم لشراء شقة يبدأ سعر التقديم لها بما لا يقل عن 100 ألف جنيه، ومنتجعات وقرى وشاليهات، بأسعار تفوق الخيال، يتحدثون عنها وكأنها" ملاليم"، لا يدرون أنها تنزل على الفقراء كالسهام تمزق عقولهم وقلوبهم، تجعلهم يتمردون على معيشتهم "الضنك"، وتحول الكثير منهم لمجرمين ومنحرفين ومدمنين، وتدفع آخرين للانتحار، فهكذا يؤكد خبراء علم النفس والاجتماع والإعلان.
استفزاز وتمرد ابتسام مرسي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر، أوضحت أن إعلانات الرفاهية عكست وجود طبقة غنية جدًا بالمجتمع المصري، الذي يعيش في أكثر من 40 % تحت خط الفقر، وتكثر به البطالة، وهو ما يؤدي لنتائج سلبية وخطيرة، تتدفع بالأطفال والشباب من سن 10 أعوام حتى 30 عامًا، إلى الانحراف لتحقيق الرفاهية التي يرونها في الإعلانات.
وتابعت أستاذ علم الاجتماع، أن الطفل عندما يشاهد هذه الإعلانات تجعله يتساءل: " ليه احنا مش عايشين كده؟"، لتأتي الأعمال الدرامية لتكمل المشهد، وتوضح له كيفية الوصول لهذا الترف عن طريق النصب والسرقة والانحراف، وبالتالي يلجأ الطفل للانحراف أملًا في أن يحيا مثلما يحيا الأغنياء.
وأضافت مرسي أن هذه الإعلانات تتدفع الشباب للتمرد على حياتهم ومجتمعهم وبلدهم، ويبحث عن الهجرة غير الشرعية، مؤكدة أن إعلانات الرفاهية لها عامل كبير في تزايد أعداد المهاجرين ومعدلات الجرائم، مناشدة صناع الإعلان بالتوقف عن هذه الإعلانات رأفة بحال الفقراء، وحفاظًا على السلم الاجتماعي.
وأكدت هناء أبو شهبة، أستاذ علم النفس بجامعة الأزهر، أن الإعلانات التي تبرز رفاهية مبالغ فيها، تستفز البسطاء، تخلق حالة من الكراهية والعداء والحقد من قبل الفقراء على الأغنياء، وتدفع البعض من الشباب للانحراف وتعاطي المخدرات بهدف تناسي ما رأوه في الإعلان من رفاهية مقارنة بمعيشته الضنك.
واقترحت أبو شهبة أن تصنع الدولة إعلانات مماثلة تخاطب الفقراء، تحدثهم فيها عن جمعيات استهلاكية تبيع اللحوم بأسعار منخفضة، على سبيل المثال، وعن وحدات سكانية للشباب بأسعار منخفضة.
وروت أبو شهبة، حديث دار بينها وبين نجل حارس العقار الذي تسكن بيه، ضاربه به المثل في كيفية تنامي الطموح لدى الفقراء بفعل الإعلانات: "بتعمل إيه بالبقشيش؟، فأجابها: كنت الأول بجيب بيه فينو وجبنة رومي، لكن دلوقتي هحوش علشان أجيب "ماكدونالدز".
الانتحار اجتمع رأي خبراء النفس والاجتماع مع خبراء الإعلان على التأثير السيئ لإعلانات الرفاهية، على المشاهدين خاصة من الطبقة الكادحة، فمن جانبها قالت ثريا بدوي، أستاذ العلاقات العامة والإعلان بكلية الإعلام جامعة القاهرة، إن هذه الإعلانات، سواء إعلانات " فيلات أو شاليهات أو منتجعات ووحدات سكانية جديدة، أو أكلات"، تزيد من الطموحات عند المشاهدين، وتجعلهم يشتهون العيش كالحياة التي يرونها في الإعلان، وتجنح بالبعض منهم للانتحار أو ارتكاب الجرائم.
وأوضحت بدوي، أن المشاهد يقارن بين معيشته وبين الحياة التي يراها في الإعلان، فيصاب بالإحباط واليأس، وخاصة مع تزايد نسبة البطالة وغلاء الأسعار، فتدفع البعض للتمرد، فيجنح للسرقة والأعمال الإجرامية لحصد أموال يحقق بها هذه الرفاهية، مؤكدة أن هذه الإعلانات تهدد السلم المجتمعي.
وشددت أستاذة الإعلان على ضرورة حل المشاكل الاجتماعية وإيجاد فرص عمل للشباب، للحد من التأثير السلبي لهذه الإعلانات على الشباب، لافتة إلى إنه لا يمكن منع مثل هذه النوعية من الإعلانات، لأن المحطات الفضائية لا يهمها نوعية الإعلان ولا ما يحويه من مضمون قد يتنافى مع المجتمع المصري، بقدر ما يهمها الأرباح التي تدرها الإعلانات.
وأضاف محمد رضا، رئيس قسم الإعلام بجامعة المنصورة، أن الإعلانات التي تحتوي على سلع باهظة التكلفة، تخاطب فئة معينة من المجتمع، ولكنها سلع استفزازية بالنسبة للمشاهد الفقير، الذي يسكن بالعشوائيات والمقابر، مؤكدًا أنه لا يمكن منع أو تقليل هذه الإعلانات، لأنها تمثل عائد ربح أساسي ورأسمال المؤسسات الصحفية والقنوات الفضائية.
شعب تاني أما بالنسبة للمشاهدين، فصبوا جام غضبهم على صانعي هذه الإعلانات، وطالبوا بوقف عرضها مراعاة لمشاعر الفقراء. محمود عبد العزيز، موظف، يقول: " أقسم بالله أنا حالي متوسط ومكتفي، ولكن بشعر بالقرف من الإعلانات دي، كأنهم بيتكلموا عن شعب تاني غير شعب مصر اللي ساكن في قبور وعشش وعشوائيات"، متمنيًا أن يتم التوقف عن هذه الإعلانات لمراعاة شعور الفقراء قائلًا:"متكملوش عليهم هما مش ناقصين هم وحزن على حالهم".
" أنا لما بشوف الإعلانات دي بقول احنا مش عايشين أصلًا، ده الحمام اللي بيجي في الإعلان أكبر من بيتنا، أنا كل أمنياتي في الحياه إني آكل وأعلم وأعالج عيالي كويس، بس حتى ده مش قادر عليه، رغم إنه في بلاد بره اسمه حقوق إنسان، لكن في بلدنا اسمه أماني "، كلمات قالها "هشام عبد الفتاح"، موظف، بنبرة حزن وانكسار وانحاء للواقع الذي جعله عاجزًا أن يرد على طفله عندما يقول له وهو يشاهد الإعلان" أنا عاوز من ده يا بابا".
" كل ده من دمنا إحنا، فلوس بيسرقوها من الغلابة، وقوت الشعب، ويروحوا يبنوا بيها عماير ومنتجعات، لما بلد يكون فيها فقير جعان بياكل من الزبالة، وغني بيسرق قوت الغلبان، يبقى نستنى إيه غير مجتمع فيه بلطجية ومدمنين ومجرمين"، هكذا علقت منى أحمد، موظفة، على إعلانات الرفاهية. نقلا عن مصر بالعربية