لم تزل, وستظل, مشكلات فهم الرؤية الدينية والنظر إليها, واستخدامها في مجريات الحياة والتعاملات والمواقف محل جدل وخلاف.ولم يزل, وسيظل, المتدينون يتجاذبهما تعصب مقيت, وتسامح محبب للنفس. وتمضي قرون عديدة لكن التعصب لا يفقد بريقه ولا جاذبيته برغم كونه هلاكا لأصحابه ولرؤيتهم, والتسامح لا يفقد برغم كل سعير التعصب قدرته المتجددة علي الوجود, يتجاذبان بل يتصارعان ويبدو أن الزمن غير قادر علي حل ما بينهما من خلاف.. فكيف؟ ولقد يحتاج الأمر إلي فهم أدق وأكثر تحديدا لكل من هاتين الكلمتين تعصب: شد العصابة علي رأسه, تجمعوا معا فهم عصبة, يتعصبون له أي ينصرونه دون تبصر، تسامح: لان في تعامله مع الآخرين, نظر للأمر دون تشدد.. سار في الأمر سيرا ميسورا. والتسامح غير التساهل, فالتساهل فيه بعض من التنازل عن الحق, أما التسامح فهو احترام وجهة النظر المخالفة واحترام المختلف, سواء في العقيدة أو في النظر إليها أو في الرأي إزاء أي مسألة. والمثير للحيرة هو أن التعصب والتسامح لا يكتفيان في الأغلب الأعم بالنظر الشخصي للأمر, بل هما ينعكسان عن وضع اجتماعي, ومناخ مجتمعي, ففي زمن ما تسود عقلية التسامح, وفي زمن تضعف متأثرة بالمناخ العام, وبأساليب الحكم والإعلام والمنهج المجتمعي مع الآخر في مختلف المجالات. ففي زمن رديء من تاريخ المسلمين ساد التعصب ليس للدين وإنما للملة وللمذهب, وفي أحيان كان الحكام والولاة يتقبلون التعامل بصدر رحب مع المخالفين في الديانة من يهود ونصاري, بينما يتشددون مع المسلمين المختلفين في المذهب. ونقرأ فلما تشفع إبراهيم بن محمد الدهان الحلبي( توفي810 ه), وكان قبلها حنبليا اسمي بالناجي( بكر بن عبدالله أبوزيد النظائر ص72)، ونمضي مع كتاب النظائر كان البعض يري أنه من الإثم الخروج عن مذهبه حتي أن البعض طالب بأن يعذر الخارج عن المذهب كالمرتد, وقال أتباع المذهب الحنفي يجوز للشافعي أن يتحنف, ولا يجوز العكس( ص12), أما قاضي دمشق محمد بن موسي الحنفي( توفي506 ه) فقد قال: لو كان الأمر بيدي لأخذت الجزية من الشافعية. وفي كتاب الدرر الكامنة لابن حجر نقرأ يلبغا الخاصكي( توفي768 ه) كان يتعصب للحنفية ويعطي لمن يتمذهب لأبي حنيفة العطاء الجزيل فتحول جمع من الشافعية إلي الحنفية لأجل الدنيا( جزء5 ص214). لكن, وبرغم هذا التعصب البغيض كان البعض يتسامح ويتعايش, فقد كان لأبي الجعد( متوفي100 ه) ستة بنين, اثنان شيعيان, واثنان مرجئان, واثنان خارجيان( الذهبي سير اعلام النبلاء جزء5 ص109). وكثيرا ما حاول فقهاء ومفكرون أن يواجهوا التعصب, فمحمد إقبال قال: إن العقيدة التي ترفض الاجتهاد, وتأبي التسامح لا تستحق أن يعتقد بها أصحابها, وكان علي بن أبي طالب يحذر من أن يتعصب الرجل لرأي لمجرد أنه يتعصب لصاحبه فقال: الحق لا يعرف بالرجال فاعرف الحق أولا تعرف قدر أهله, وقد حاول الرسول الكريم أن يستحث الجميع علي قبول الرأي الآخر, والاجتهاد المختلف فقال: القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. ولأن المصدر الأساسي للتسامح ومواجهة التعصب هو إعمال العقل يقول الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال: إن العقل يري الأشياء كما هي, وهو يصلح معيارا لا يخطئ عندما تحاول التمييز بن الحق والباطل, والخطأ والصواب, بشرط أن يتخلص من غشاوة الوهم( أي الأساطير) والخيال( أي اصطناع القصص الخرافية) فإن كان كذلك فإن العقل لا يخطئ أبدا. فالتسامح يقوم أساسا علي عقل عقلاني لا يقبل الخرافة, ولا الأساطير, ولا التعصب, وإنما يكون منفتحا علي الحقيقة, مدركا أن رأيه هو مجرد اجتهاد إنساني, وأن اختياره بين الآراء والمواقف والرجال هو اختيار إنساني يخطئ ويصيب. ولنستمع إلي أبو الحسن الأشعري, إذ يقول: اختلف الناس بعد نبيهم في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم البعض فصاروا فرقا متباينة, وأحزابا مشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم( مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ص201). وكان الإمام الشوكاني واحدا من دعاة التسامح مع الآراء المختلفة, ومع المجتهدين مهما خالفوه, وقال: فإذا تكلم أحد علماء الاجتهاد بشيء يخالف ما يعتقده المقلدون قاموا عليه قومة الجاهلين ووافقهم علي ذلك أهل الدنيا, وأرباب السلطة, وهذا عين الجهل والضلال. ويردد الفقهاء من دعاة التسامح أن الآيات القرآنية التي تتحدث عن الصفح والعفو والصبر والرحمة بلغت24 آية, وحتي لو حاول البعض أن يرد مسلما عن إيمانه, فجواب المسلم هو الصفح والعفو ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتي يأتي الله بأمره إن الله علي كل شيء قدير( البقرة:109). وكذلك الحال في المسيحية.. التعصب وجد ولم يزل, والتسامح أيضا, لكن اللافت للنظر هو موقف الأب جيوفاني مارتيني من دعاوي نيتشه ضد المسيحية, والتحريض علي الإلحاد, فقد قال: كان نيتشه أكبر داعية للإلحاد, لكنه بقي في دائرة المسيحية لأنه كان يتحدي المسيحيين ويحرضهم علي التفكير, ويحفز عقولهم كي يقيموا إيمانهم علي وجه أكثر تماسكا( دواعي الإيمان في عصرنا ترجمة الأب يوسف خاشاقجي ص111). وهكذا يظل الإيمان المتسامح قادرا علي أن يظلل المؤمن بالحكمة, والقدرة علي احترام الآخر, واحترام رأيه, وربما القدرة علي اكتساب العقلاء إلي صفه. ** نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية