الأهرام: 2/2/2009 تركت القاهرة يوم الثلاثاء الماضي للمشاركة في المؤتمر السنوي للمنتدي الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس السويسرية وسط جبال الألب; وعندما أعلن الطيار الهبوط في مطار زيورخ كانت درجة الحرارة قد هبطت إلي الصفر مئوية بعد أن تركناها عند25 في مطار القاهرة الدولي. وبعد رحلة القطار صعودا في الجبال, ومع تكاثف الثلج كان الهبوط قد وصل إلي بضع درجات تحت درجة التجمد. ولكن الحال لم يكن كذلك إطلاقا داخل قاعات المؤتمر الذي كان يشكل أكبر تجمع سياسي واقتصادي منذ نشوب الأزمة المالية والعالمية في منتصف سبتمبر الماضي. كان هناك2500 من المشاركين, بينهم من الساسة41 رؤساء دول وحكومات ومنظمات دولية, وعشرات من الوزراء من كل نوع, وعشرات آخرون من رؤساء الشركات والبنوك الكبري في العالم, ومئات غيرهم من قادة المجتمع المدني, وأخيرا جيش صغير من الخبراء والمتخصصين في علوم الصراع, والاقتصاد, والمال, والتكنولوجيا. ووسط كل هؤلاء كان المناخ كئيبا, وانتهت منه تلك النظرة المتفائلة للدنيا والتي كانت شائعة في ذات المؤتمر مع بداية القرن الجديد, أو تلك النظرة المتحفزة التي كانت ذائعة عندما انعقد المؤتمر في نيويورك عام2002. وعندما كان هناك تفاؤل فقد كان ذلك راجعا إلي الثقة الهائلة المتولدة لدي الغرب نتيجة التطورات التي جرت خلال التسعينيات من القرن الماضي; أما التحفز فكان مصدره ذلك الهجوم الإرهابي علي الولاياتالمتحدة والذي ساد الظن ساعتها أنه هجوم علي الحضارة الغربية كلها. ولكن الأمر هذه المرة كان مختلفا, حيث كان الفشل في قيادة العالم الغربي وأدي إلي أزمة عالمية طاحنة لم تترك ركنا في العالم إلا وأثرت فيه وتركته في مهب ريح شكوك وظنون كثيرة. وبغض النظر عن المهام التي كانت موكلة لي في المؤتمر, فإن الذهن لم ينصرف مرة واحدة عن مصر ومايجري فيها; فقد بات واضحا أن عملية الإصلاح والتطور الاقتصادي والاجتماعي التي بدأت منذ عام2004 قد فقدت قوة اندفاعها الذي كانت عليه. ومن الجائز بالطبع أن ينحو البعض منا إلي إرجاع ذلك إلي الأزمة الاقتصادية العالمية التي لم تترك بلدا إلا ومسته بضرر من نوع أو آخر, وخلال الأشهر الثلاثة الماضية كان واضحا أن التراجع الجاري في السياحة والاستثمارات وتحويلات المصريين العاملين في الخارج ودخل قناة السويس والصادرات كلها أثرت علي حركة السوق ومعدلات النمو. ولذلك فإن المسألة واضحة, وماعلينا إلا أن نعض علي النواجذ, ونتحمل الخطوب العالمية, حتي تأتي لنا الأيام بأفضل مما حصلنا عليه حتي الآن من حظوظ. ولكن الاستسلام إلي هذا التبرير يخالف الحقيقة, لأن التراجع في الاقتصاد المصري كان قد بدأ قبل الانهيار العالمي في منتصف سبتمبر, وكانت الأرقام في الربع الأخير من العام المالي2008/2007 غير مبشرة بالسير علي نفس معدلات النمو السابقة, بل كان هناك مايدل ليس فقط علي أن التضخم قد وصل إلي معدلات غير مسبوقة, بل إن النمو نفسه كان آخذا في التباطؤ. والأخطر من ذلك أن معدل التنافسية المصرية كان آخذا في التراجع قبل الأزمة العالمية بزمن عندما حصلت مصر علي المكانة81 في عام2008 بينما كانت77 في العام الذي سبقه و71 قبل عامين. فرغم معدل النمو المرتفع في هذه السنوات فإن الاقتصاد المصري كان آخذا في فقدان القوة علي الاندفاع, حيث توقفت العمليات الإصلاحية لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الكلي وهو ماحصلت فيه مصر علي المكانة125, وكانت مصر في المكان الأخير134 في كفاءة العمل, و119 في القدرة علي الفصل, و129 في نزيف العقول والمواهب, و124 في فساد استخدام الأقارب والأصحاب, ومعهم ترتيب متأخر في عمليات الدخول والخروج إلي سوق العمل وهكذا. مثل ذلك ليس موجودا في الدول العربية النشطة اقتصاديا مثل الأردن التي حازت علي المكانة48 وعمان والبحرين اللتين حصلتا علي37 وتونس التي حازت36 والكويت35 والإمارات العربية31 والسعودية27 وقطر26. وفي دول العالم النامي كانت سريلانكا والفلبين71, وفيتنام70 وإندونيسيا55 والهند50 وتايلاند34 والصين30, وماليزيا21. معني ذلك ليس فقط أن الدول الأخري نجحت فيما لم ننجح فيه من حيث تحسين موقعها التنافسي في العالم, بل أيضا أننا فقدنا قوة الاندفاع لتحسين هذا الموقع, حيث كان ذلك واحدا من أولويات اهتمام وزارة الدكتور أحمد نظيف. وفي العام الماضي نشرت مجموعة من المقالات علي سبيل التحذير في هذا المكان ركزت فيها علي تلك الحلقة الجهنمية التاريخية التي تحقق التقدم لمصر لبضع سنوات ثم بعد ذلك تبدأ مصر في المراجعة, ثم التراجع, فالبطء في التنمية الذي ينتهي إلي الركود. وكان هناك سببان ذكرتهما لهذه الحلقة الجهنمية, أولهما كان ذيوع الحديث والضغوط السياسية والبيروقراطية من أجل توزيع الثروة قبل أن يتم تحقيق التراكم الرأسمالي الكافي; وثانيهما قيام الصراع العربي الإسرائيلي بانتزاع اهتمام القادة بعيدا عن طريق التنمية ودفعه علي طريق المنازعات بين العرب وبينهم وبين إسرائيل. وكان ذلك تحديدا هو ماجري في العام الماضي, فخلال النصف الأول كانت قضية الفقراء قد استحوذت علي النقاش العام, وشلت يد الحكومة عن الاستمرار في الاندفاع لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية, واستحوذت قضية الدعم علي كل القضايا الأخري, وكانت النتيجة هي قرارات مايو و ماسبقها من فشل في خصخصة بنك القاهرة, وكلاهما أعاد الظنون والشكوك حول المدي الذي ستذهب إليه عملية الإصلاح الاقتصادي; أما في النصف الثاني فقد جاءت الأزمة العالمية لكي تصحب معها القضية الفلسطينية التي برزت إلي السطح في موقعة غزة الأخيرة. وعلي مدي شهر كامل لم يبق أمام مصر والمصريين إلا مشاهدة الحالة الفلسطينية في أسوأ حالاتها, ومعها كانت الحالة المصرية تنزف بفعل فقدان عربة التنمية لاندفاعها, وبفعل الهجوم العربي غير المفهوم عليها من كل الاتجاهات. وهكذا عندما جاءت الأزمة العالمية فإن الأرضية كانت ممهدة لها لكي تكون آثارها مضاعفة, خاصة بعدما عجزت الحكومة عن مواجهة تلك الفرية القائلة إن الأزمة الاقتصادية في مصر مماثلة لتلك التي وجدت في الدول الغربية. وكان مضحكا كثيرا أن يتحدث خبراء اقتصاديون وسياسيون عن الليبراليون الجدد واقتصاد السوق الحر في مصر كما لو كانت القاهرة قد أصبحت نيويورك أو واشنطن. فبينما كانت مشكلة هذه الأخيرة في قلة المراقبة وتهافت سيطرة الدولة, فقد كان سبب الأولي هو إفراط الدولة في الحكم والسيطرة والهيمنة علي الاقتصاد القومي الذي لايزال مستحكما وفق كل التقارير العالمية المعروفة التي تضع الاقتصاد المصري بلا تردد ضمن دول الاقتصادات المقيدة. ولكن ذلك كان جزءا من معركة سياسية خسرتها الحكومة منذ البداية عندما لم تجعل قوة الاندفاع جزءا من السياسات العامة يتفوق ويفوق كل القضايا الأخري داخلية كانت أو خارجية. ولكن كل ذلك يعود بنا إلي دافوس مرة أخري, حيث كان يجري أكبر كونسلتو عالمي لمعالجة الأزمة العالمية الراهنة والتي اتفق الجميع علي إمكان الخروج منها ولكن دون حلول سحرية أو كما قال واحد من الحكماء أنه مهما تكن هناك أنواع كثيرة من الدواء لعلاج البرد, فإن أيا منها لن يعفي المريض من فترة زمنية للمعاناة منه. وحسبما قال بيل كلينتون في المؤتمر إنه في هذه النوعية من الأزمات فإنك تأخذ الخطوة بعد الأخري حتي تجد نفسك خارجها, وهناك بالتأكيد خطوات جديدة ربما كان مايلخصها أن عالما جديدا من التكنولوجيا وإدارة الأعمال والعلاقة بين الدولة والمشروعات الخاصة سوف تولد من هذه الأزمة. ولكن ربما كان أهم الدروس هو ماقاله فلاديمير بوتين عندما قال إن الشتاء يأتي إلي روسيا كل عام ولكنه أتي هذا العام مصاحبا بالأزمة الاقتصادية. ومعني ذلك تحديدا هو التمييز بين ماتسببه الأزمة من أثار, وما كان موجودا قبلها ويمكن التحكم والعمل من خلاله دون تراجع وعودة إلي أساليب قديمة ثبت فشلها من قبل ولايوجد سبب واحد يدعو إلي أنها سوف تنجح في المستقبل, وهو التحذير الذي قاله رئيس الوزراء الروسي بحزم واضح. مثل ذلك ينطبق علي مصر, فمع كل الآلام التي سوف تتحملها جراء الأزمة العالمية, وأيام نوبة المرض التي لايمكن التخلص منها, فإن هناك مساحة واسعة للإصلاح تستطيع الحكومة والدولة العمل فيها وموضحا بعضها عاليه في تقرير التنافسية والتقارير العالمية المماثلة في التنمية البشرية والتي لها علاقة مباشرة بالإدارة والسياسة ولا علاقة لها بالأزمة العالمية, وهناك الاستخدام الأفضل للأراضي, كما أن هناك مجالات واسعة لتعزيز الطلب الداخلي وتعميق السوق المصرية في مجالات كثيرة. وفي نهاية حديثه أعطي بيل كلينتون ثلاث نصائح: للسياسي قال إن الوقت هو وقت عمل وقرارات, فلا تؤجل أمرا يمكنك عمله اليوم إلي الغد; ولرجل الأعمال قال لاتنس أنها أزمة مالية, ولكن إذا كان لديك منتج جيد فإنه سوف يصمد حتي النهاية; وللعاملين في المجتمع المدني أن يكتشفوا القوة المالية الضخمة الموجودة لدي الناس والتكنولوجيا الحديثة وقدرتها علي تحريك جموع كثيرة نحو أهداف سامية.