أكواب للشاي بأسماء متعددة، «بنورة»، «عجمي»، «ميزة»، «بربري»، وغيرها الكثير. روائح متميزة للشيشة ذات الأسماء المختلفة، مثل «حمي»، و«تفاح». أصوات تتصايح بين مؤيد لفائز في «الطاولة»، وأخري تبكت مهزوماً في «الدومينو». وفرصة رائعة لمشاهدة المارة، والفرجة علي شوارع القاهرة، العامرة دوماً بأهلها، وإلي جانب كل هذا، عبق تاريخ لا يمل من تكرار قصصه وحكاياته المثيرة، هذا ببساطة تلخيص لما يمكنك التمتع به علي مقاهي القاهرة، التي تعد حالة خاصة يدركها من جرب الجلوس عليها. علاقة المصريين بالمقاهي بدأت في القرن السادس عشر الميلادي حينما جاء شخص يدعي أبو بكر بن عبدالله، بنبات البن، وقدمه للمصريين الذين اعتادوا طعمه المميز، وارتبط اجتماعهم لشرب القهوة، في مكان بحجم الغرفة، أطلقوا عليه اسم «المقهي». واحتوي كتاب «وصف مصر» الذي أعده علماء الحملة الفرنسية عن أحوال مصر والمصريين، جزءًا خاصًا لوصف المقاهي، إذ قال إن عددها حوالي 1200 مقهي، بخلاف مقاهي مصر القديمة وبولاق، لكنها غالبًا مقاهٍ صغيرة، لا يرتادها إلا البسطاء والعاطلون عن العمل. وكان المصريون يربطون جلوسهم علي المقاهي بالاستماع لقصص السير الشعبية والملاحم، مثل أبوزيد الهلالي، والظاهر بيبرس، حتي كان مطلع القرن الماضي حينما شرع اليونانيون المقيمون في مصر، الذين كان كل منهم يحمل لقب «خواجة»، في إنشاء المقاهي علي الطريقة الأوروبية، تبعهم في ذلك أولاد البلد، ليصبح المقهي ملتقي الأدباء والمثقفين والفنانين، ومن قبلهم السياسيون الذين رسموا شكل الحياة السياسية لمصر علي المقهي. ومن بينها مقهي «ريش» القريب من ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، الذي قال عنه الشاعر أحمد فؤاد نجم: «يعيش المثقف علي مقهي ريش، يعيش يعيش يعيش، محفلط مزفلط كتير الكلام، عديم الممارسة عدو الزحام، بكام كلمة فاضيه، وكام اصطلاح، يفبرك حلول المشاكل قوام، يعيش المثقف يعيش يعيش يعيش». لا عجب في وصف الفاجومي مقهي ريش، فتاريخ إنشاء هذا المقهي يعود للعام 1908، وبه جلس عدد من المشاهير السياسيين، وفي أحد أركانه غنت أم كلثوم عند مجيئها في المرة الأولي من طماي الزهايرة، وعلي إحدي أرائكها، كتب نجيب محفوظ روايته الشهيرة «الكرنك». «كلما رأيت دخان الشيشة يتصاعد كثيفاً متماوجاً، تراءت أمامي شخوص رواياتي ومسيرة حياتها»، هكذا وصف أديبنا نجيب محفوظ جلسته علي المقهي، وبخاصة الفيشاوي، القائم في حي خان الخليلي منذ القرن الثامن عشر، والذي احتل لديه مكانة مميزة، جعلت له ولأصدقائه من «الحرافيش» مكاناً مستقلاً في أحد أركانه، يجلسون به، لتدور مناقشاتهم في الفن والسياسة والأدب والحياة، سعداء بما يميز المقهي من شاي أخضر، وكركديه، وزنجبيل، وتصميم يجعلهم علي تواصل مع العصر الذي شبوا فيه. وإلي جانب «ريش»، و«الفيشاوي»، كانت هناك مقاه أخري شهيرة، بعضها غرق في طوفان تشويه الجمال بالهدم، كما حدث مع مقهي «متاتيا» ملتقي السياسيين والمثقفين في الماضي، ومن أبرزهم جمال الدين الأفغاني، الشيخ محمد عبده، أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم. وكان يقع بالقرب من ميدان العتبة، وهدم مع العمارة التي كانت فوقه، ومقاه أخري تغير اسمها وحالها، رغم بقاء هيكلها الخارجي، مثل مقهي «نجيب الريحاني» بشارع عماد الدين الذي تحول اسمه إلي «فينكس». واكتسب المقهي اسمه في الماضي من مسرح نجيب الريحاني الذي كان يجاوره، وكان يجلس عليه كبار الفنانين والكومبارس أيضاً. الطريف، وكما سبق للمؤرخ الراحل جمال بدوي الإعلان في أحد حواراته التليفزيونية، أن بعض المقاهي كان يطلق عليها لفظ «بار» للتعبير عن تميزها ورقيها، وكانت متخصصة في السياسة، مثل «بار اللواء» في شارع شريف بوسط القاهرة، وكان ملتقي أعضاء الحزب الوطني الذي أسسه مصطفي كامل عام 1907، مضيفاً أن المقاهي كانت ملمحاً أساسيا في حياة المصريين في الماضي، لا لكونها مكاناً فقط للقاء الأصدقاء، وتمضية الوقت، ولكن أيضاً لكونها مكاناً يعبرون فيه عن آرائهم، ويعرفون فيه وجهات النظر المختلفة في شتي مناحي الحياة. تأثير المقهي في حياة المصريين، حتي مع اختلاف ملامحه وتفاصيل ما يقدمه لرواده، ودخول ملامح غربية عليه، يعبر عنه أحد أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، التي صدرت منذ نحو العامين، وجاء بها أن عدد مقاهي القاهرة وحدها يبلغ 14 ألف مقهي، وهو عدد يراه البعض كبيراً علي سكان القاهرة الذين يقتربون من ال 20 مليون نسمة، ولكن البعض يراه رقماً يتناسب مع زيادة أعداد العاطلين، وتراجع وجود الأماكن التي يمكن أن يتجمع بها الناس، دون إرهاق للميزانية. أما الظاهرة الأكثر جذباً للانتباه فهي، وعلي الرغم من تزايد عدد المقاهي، غير أنها لم تعد ملتقي المثقفين والسياسيين الذين هجروا المقهي، وباتت لهم أماكن أخري للقاء يتحدثون فيها بهدوء وبلا ضجيج.