مقاهي مصر المحروسة علي كل لون وشكل وعلي الرغم من اختلافها بين قهوة شعبية أو للصفوة إلا أنها تتزين خلال شهر رمضان بالفراشة والفوانيس وتبدأ بفتح أبوابها قبل الإفطار حيث يقوم العاملون ب «رص المقاعد وإعداد الموقد، وتنظيف الشيشة وتحضير حجارة المعسل» في انتظار قدوم الرواد بعد صلاة المغرب. وعادة ما تكون هناك صينية مغطاة تحوي أصناف الطعام التي يتناولها صاحب المقهي والعاملون به وقت الإفطار ورغم تشابه المقاهي كأمكنة لتمضية الوقت ولقاء الأصدقاء لتبادل الحديث والمناقشات، إلا أن لكل مقهي زبائنه الذين اعتادوا السهر في كل ليلة، حين يهل شهر رمضان تغص المقاهي برواد جدد يضيقون الخناق علي الزبائن الدائمين، وتتعالي الأصوات المتداخلة بين فرقعات قطع الدومينو والطاولة ورشفات الشاي والحلبة و(كركرة) الشيشة هكذا يضطر الزبائن الذين اعتادوا هدوء مقهاهم إلي الانصراف مبكرا ليفسحوا المجال أمام (الدخلاء) من الشباب الذين يحققون بهجتهم بالضحكات العالية ولا ينتهي الصخب إلا في ساعة متأخرة من الليل قبل الحسور. يقول حسن عبدالله عامل مقهي: بعد انصراف الزبائن نسارع بالعودة إلي منازلنا حتي نتناول السحور مع أسرنا، حيث إننا لا نتناول الإفطار معهم، لأن المقهي يفتح أبوابه قبل ساعات من أذان المغرب، ويكون أمامنا مهمة إعداد المقهي لاستقبال الزبائن. ويضيف عامل المقهي: نقدم للزبائن جميع المشروبات الساخنة والمثلجة، وعن حركة الزبائن خلال شهر رمضان يقول محمد شعبان صاحب مقهي: رمضان شهر خير وبركة، وفيه يكثر الرزق، وهذا من فضائل الشهر الكريم، ودائما يوجد زبائن جدد يرتادون المقهي، لذلك نحرص علي تقديم الطلبات الجيدة حتي يكونوا من زبائن المقهي الدائمين. واقتربنا من بعض الشباب الذين يتحلقون حول لاعبي الطاولة، وسألنا مصطفي علي عن أسباب جلوسه في المقهي دون أي مكان آخر، فقال: المقهي في رمضان شيء مختلف عن الشهور الأخري، وفرصة طيبة للالتقاء بالأصدقاء وتمضية الوقت في بهجة وسعادة، فالزحام والضوضاء لا تنتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، وهذا يثير في النفس الإحساس بالحركة والحيوية التي تعج بها ليالي رمضان. وبعيدا عن الأحياء الشعبية سنجد مقهي (زهرة البستان) في وسط القاهرة، والذي اشتهر بأنه ملتقي للأدباء والفنانين، وهناك تعبر الممر الضيق حيث المقاعد والمناضد المتراصة ومن حولها يجلس عدد من الأدباء الشباب مع كبار الأدباء، وتتحول جلسات المقهي إلي ندوات أدبية حيث نري رواده أمثال سعيد الكفراوي، وإبراهيم اصلان وبهاء طاهر وغيرهم من الأدباء الذين يتحاورون مع الأدباء الشباب في جو من الألفة والبهجة، لذلك يحرص المقهي علي الاستعداد لشهر رمضان حتي لا يفقد بعض زبائنه من الأدباء وغالبا لا يغير هؤلاء جلستهم خلال شهر رمضان ويحرصون علي قضاء سهراتهم في هذا المقهي الذي استمد شهرته من رواده البارزين وفي شهر رمضان تحرص الفنادق الفخمة أن تنقل جو المقاهي الشعبية إلي روادها، وتخصص قاعات تسمي باسماء تراثية كالمشربية والديوانية، والسكرية، وغيرها من الأسماء التي تحمل عبقا تاريخيا خاصا، وتقدم هذه المقاهي (الخمسة نجوم) أصناف المشروبات الساخنة والمثلجة كالشاي والينسون والحلبة والخشاف، وتتناسق ديكورات القاعة التي تتسم بالطابع الشعبي حيث المقاعد الخيزرانية والجدران ذات الزخارف واللوحات التاريخية والفوانيس المدلاة من السقف، ويلتقي رواد هذه المقاهي بمطرب أو عازف للعود لتمتلئ القاعة بالموسيقي والغناء لبعض الأناشيد والأغنيات التي يتردد صداها في جنبات القاعة أو المقهي وتمتد السهرات الرمضانية داخل هذه القاعات، التي يتراوح سعر دخول الفرد فيها بين ثلاثمائة وأربعمائة جنيه ويحاول أصحاب هذه المقاهي الفخمة أن يجتذبوا روادهم بإضفاء اللمسات الرمضانية، ولكنها لمسات باهظة التكاليف لا يقدر عليها إلا فئات محدودة، بينما تبقي الأحياء الشعبية عامرة بالمقاهي التي تجتذب قطاعات كبيرة من الرواد الذين يتمتعون بالمذاق الشعبي. لقد سطر أديبنا الكبير نجيب محفوظ مع شلة الحرافيش أحمد مظهر وتوفيق صالح رحلة عمره كله في ليلة من ليالي رمضان وقال: «الذي يريد أن يراني أو يسمع عني شيئا فليذهب إلي الأحياء الشعبية خاصة في لياليها الرمضانية، سيجد بعضا من بقايا الحرافيش هناك ليري رمضان الذي فشلت في الكتابة عنه رغم أنه كان أمامي طوال هذا العمر ولم أره مثلما رأيته الآن، فحلاوة رمضان لا تجدها إلا في الأحياء الشعبية فقط».