تحولات تشبه دوران الأرض حول نفسها، أصابت كلمات الأغنية المصرية التي عاشت عصراً ذهبياً ربما لا يتكرر، وهي التي ارتدت يوماً ما حلة راقية موشاة بألحان العذوبة، وممزوجة بملح أرضها، وملتصقة بشريان نيلها العظيم، بعد أن وهبته آلافاً مؤلفة من القرابين والكلمات والجمل الموسيقية المغرقة في الرومانسية والإبداع. هذه الأغنية التي تركت لأبنائها إرثاً لا يستهان به من المدارس الفنية المتمثلة في كبار فنانيها وشعرائها، نعيش اليوم واقعها البائس بوصفها محاكاة لديموغرافيا البيئة المصرية بكل تداخلاتها النفسية والاجتماعية، وما تحمله من هموم أو ربما أحلام أبناء جيلها تحت مسمى الأغنية الشبابية بمفرداتها التي تتأرجح ما بين الركاكة والإسفاف، وفي أحيان كثيرة قد تصل إلى حد البذاءة وخدش الحياء. وفي استرجاعنا أرشيف الأغنية المصرية، نجد أنها بدأت تتخذ منحاها الشبابي في السبعينات وتحديداً عام 1974، عندما أطلق الفنان الشعبي أحمد عدوية ألبومه الأول الذي احتوى على عشر أغنيات أهمها «البدر ساكن فوق» الشهيرة باسم «حبة فوق وحبة تحت» و«سلامتها أم حسن» و«أتعلموها بقى» و«كله على كله».. انزعج جمهور المثقفين من غرابة الكلمات، اتهمه البعض بإفساد الذوق العام ولم تذع أغنياته في الإذاعة والتلفزيون المصري. وانتقلت الأغنية المصرية مع عدوية من حالة الرومانسية المطلقة، إلى حالة الزحام والشارع وأصبح يخاطب الحبيبة بلغة الشارع والمترو والأوتوبيس، والبحث عن لقمة العيش وتحديد النسل، كان ذلك لوناً غنائياً لا يرتدي الأقنعة، بل ينبع من الشارع بقسوته كما في دفئه وصدقه، وجذب الناس حوله وتعلقوا به. وإضافة إلى حصول الكلمات الشبابية الجديدة آنذاك على تأييد الشارع المصري، استقطبت «كاريزما» اللون الغنائي الخفيف كبار المؤلفين والملحنين، فقد تعامل أحمد عدوية مع صلاح جاهين في أغنية «مجنون مجنون سيبوني»، ومع الأبنودي في موال «بحب خمسة» ومع مأمون الشناوي في «كركشنجي دبح كبشه» و«سيب وأنا أسيب» ولحن له بليغ حمدي خمس أغنيات والشريعي وسيد مكاوي بالإضافة إلى الراحل العملاق حسن أبوالسعود الذي لحن أكثر من نصف أغنيات عدوية. وما قدمه عدوية من لون شعبي خفيف، اختلف تماماً عن نهج عبدالحليم حافظ الذي حاول قبل وفاته تجريب الأغنية السريعة، وقام بأداء الأغنية الشعبية بعد نجاح تيار محمد رشدي وبليغ حمدي في الستينات. وربما لو كان عبد الحليم بيننا الآن، لاستعان بملحني الأغنية الشبابية لأداء هذا اللون الجديد، الذي يعبر عن مرحلة وتطور وانتقال للإمساك بالعصا من النصف في الكلمات واللحن كوحدة فنية جديدة. ومع استثمار الكثير من الفنانين من أمثال حسن الأسمر وكتكوت الأمير، تحول مسار الذوق العام ل«السميعة» الذين كانوا سبباً في ازدهار أسواق الكاسيت بجمهوره العريض من مختلف الفئات والثقافات. معلبات على الشاشة وبسرعة الضوء غزا الفضاء العديد من القنوات الفضائية التلفزيونية، التي مازالت تنتظر المزيد من معلبات الأغنية الشبابية التي اقتحمت الفن السابع، مقحمة شخصيتها أيا كانت في العديد من الأفلام لتلون من جديد مسارها الذي يداعب نبض الشارع المصري والعربي، وهذا ليس اعتراضاً على مفهوم الأغنية الشبابية وكينونتها، فما يقدمه عمرو دياب وإيهاب توفيق ومحمد نور وتامر حسني ومحمد حماقي وشيرين وغيرهم الكثير، ينتهج التغير الايجابي لمفهوم الكلمة والألحان الخفيفة. وتعبر عن جيل مختلف يملك شراء ألبومات هؤلاء بأسعارها العالية وتعجبه موجة الفيديو كليب. وقد أصبح سوق الفن يحقق الثراء ويتحكم أيضاً في مسار الأغنية العربية. وهذا السوق لا تديره سلطة سياسية أو نظام ما، وإنما يتحكم فيه أصحاب المقدرة الشرائية والمحطات الفضائية التي تفرض ذوقها وتستجيب لرغبات المشاهدين.. وعندما نتجول في سوق الكاسيت نشعر بتعددية حققها هذا التحسن الاقتصادي الهامشي، والإقبال على ألوان متنوعة وشبابية من الغناء والتوزيع الموسيقي. ولعل انفتاح سوق الغناء وتعدد الأصوات، يعد ظاهرة جيدة على الرغم من أن الجيل القديم يرفض الاعتراف بالتطور، ويعتقد أن رؤيته الموسيقية والغنائية هي الصحيحة، والدليل أن الأغنية الشبابية تحمل بين طياتها مفردات وإيحاءات جنسية و«أفيهات» تسيطر على كلماتها مصحوبة بأداء هزيل ومترهل مشرعاً أبوابها لكل «ما هب ودب». دراسة سيكولوجية وفي أول دراسة من نوعها عن الأغنيات الهابطة «تحت عنون الأغنية الهابطة: دراسة سيكولوجية «تؤكد أن طريقة الأداء بصفة عامة، تضفي الطابع الفاضح حتى على الكلمات غير الفاضحة، وتساعد على ترسيخ مفهوم خاطئ بين طبقات المجتمع وإشعال روح التعصب. وتؤكد الدراسة ان معظم ما تضمنته كثير من الأغنيات، هو التأكيد على أن المادة أصبحت أهم قيمة وهو شيء لم تخل منه أغنية واحدة من الأغنيات موضع الدراسة. ولم تسلم القيم الأسرية من السخرية خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين، حيث تطلعنا الدراسة بأمثلة لما تقوله إحدى هذه المهازل المغناة على لسان زوجة مصرية: «جوزي أشويه وأقليه.. أفرده وأكويه.. أعمله بولوبيف». والطريف أن الدراسة تؤكد أن هذه السمات مجتمعة، تتفق إلى حد كبير مع السمات العامة لمرض الفصام أو «الشيزوفيرانيا»، حيث يقطع المريض كل صلة له بالواقع الخارجي ويصطنع منطقاً جديداً يشبه المنطق الذي يتجسد في الأحلام، حيث يرى الواقع ليس كما هو بالفعل، ولكن كما يريد هو أن يراه وبما يحقق له إشباعاً كاذباً لرغباته. ومن النماذج التي يختارها للتدليل على ذلك:«لما الجو أحلو وراق رقصت أنا في مترو الأنفاق».. و«اسمع مني أنا مجري غويط وأنا اللي رقصت العفاريت».