لم يمر أسبوع على أحداث مهرجان الصورة بالمركز الثقافى الفرنسى الذى أصر على عرض فيلم اسرائيلى ضمن برنامجه ثم صدور بيان للمثقفين يقاطع فيه المهرجان، إلا وكان المغنى البلجيكى سلفاتور آدامو يشدو على مسرح الأوبرا من أجل الحب والسلام ويتعاطف مع الشرق «الممزق». كنا نتمنى لو مرت حفلة آدامو الموسيقية مساء الجمعة الماضية كما بدأت حيث احتشدت جماهير الفرانكفونيين، وسيدات الصفوة بشكل خاص تتمايلن مشجعات ومصفقات على أنغام المغنى والمؤلف والملحن سلفاتور آدامو الرومانسية. بدأ آدامو (67 عاما) فى فتح «صندوق الذكريات»، وهو اسم أحد أغانيه الحالمة، ليغنى الألحان الفرنسية التى ألهبت خيال جيل الستينيات فى العالم. أغنيات ارتبطت بمرحلة الشباب وبالحب الأول مثل «حب ضائع»، و«خصلة شعر» و«أحب» و«الموت بين ذراعيك»، حيث راحت أصوات المتفرجات ترتفع فى الصالة من هنا وهناك تطالبه بغناء «حياتى بدونك» أو «يتساقط الثلج» اللتين بدأ بهما مسيرته الفنية ولاقتا نجاحا مدويا فى عامى 1963 و1964، وكان يعدهن بأن القائمة تضم كل الأغنيات التى يطلبونها مرددا «ثقوا فى». وحين شدا بأغنية «دولتشى باولا» باللغة الايطالية اعتزازا بأصوله الإيطالية (ولد فى صقلية عام 1943 وعاش فى بلجيكا التى يحمل جنسيتها) كان الجمهور الذى يحفظ الأغنية عن ظهر قلب يصفق بين كل جملة وأخرى مؤديا بمهارة إيقاع الأغنية الموسيقى. كنا نتمنى لو اكتفى آدامو بالدور الذى رسم له فى العالم كمغنى الرومانسية، ورمز للأيام الخوالى، تربع على عرش الأغنية الفرنسية وبيعت اسطواناته بما يزيد على 100 مليون حول العالم وحاول الاحتفاظ بتبوئه لعرش الأغنية مستعينا بشباب المغنين وعمل ثنائيات غنائية معهم. لكن يبدو آدامو اليوم بعيدا عن الجيل الذى شب على ألحانه ويقاسمه حنين تلك المرحلة وقد تجاوزه الزمن، فحين يغنى ضمن ألبوماته الجديدة «الجمال امرأة» أو «لماذا تغنى؟» التى كتبها متأثرا بسؤال المليونير أوناسيس لأسطورة الغناء «ماريا كالاس» نفس هذا السؤال مستنكرا عليها ألا تنعم بيخوته وثروته وتصر على الغناء، نتساءل أليست هذه الحكاية قديمة بعض الشىء؟ déjà vu أو سبق سماعها من قبل كما يقول الفرنسيون؟ خاصة حين تقول كلمات الأغنية «لماذا تغنى؟ هل تسأل العصفور لماذا يحلق؟». يذكرنا آدامو اليوم بالمغنى الفرنسى الجزائرى المولد أنريكو ماسياس، وحش الأغنية الفرنسية، الذى شبت على صوته أجيال وظل ينشد «لأطفال العالم أن يتحدوا» وللمعانى الإنسانية عن الرحمة والتضامن «اعطوا.. اعطوا وسوف يرده الله إليكم» وحين أتى لإحياء حفل فى مصر والتف حوله جموع الفرانكفونيين، كان قد صرح قبلها بقليل تصريحات تتعاطف مع أطفال إسرائيل وداعية لأهمية السلام. سار آدامو على الدرب، ليس بنفس قوة انريكو، لكن متبنيا هذه الروح التى تدعو للسلام والحب والخير والبراءة، تستدعى بوضوح ثقافة الرجل الأبيض الذى أرسى قواعد الاستعمار ثم سرعان ما أصبح داعية سلام يتألم من آثار الحرب، ويتعاطف مع القتلى من الأطفال، فالبراءة فى هذا السياق تكون أميل إلى السذاجة. فحين طالب الجمهور المصرى آدامو بأن يغنى لهم «إن شالله» منجذبين لعنوان الأغنية باللغة العربية والتى يغنى فيها للقدس («رب الجحيم أو رب السماء/ فى أى مكان كنت/ على أرض إسرائيل/ هناك أطفال يرتعدون»)، فأجاب آدامو: «سوف أغنيها لكنى سأغنى أولا «شرقىّ الموجع» أو Mon douloureux Orient، ليكون هناك توازن». أى أن هؤلاء الفنانين الغربيين مازالوا يأتون إلينا بأفكارهم البريئة الساذجة عن السلام، يأتونا إلينا بمثالية فى غير موضعها، ويصمتون أمام الحصار الإسرائيلى ومجاذر الأطفال والقمع اليومى وسلب الهوية، وحين يتوجهون إلينا يعطوننا دروسا فى الحوار مع الآخر والسلام والحب ويقولون غير مبالين التحية العبرية «شالوم». لا تبك يا آدامو على الشرق الممزق، ولا تغنى ثانية هذه الأغنية التى كتبتها عن شرق لا تعرفه: «يا شرقى الممزق/ يا شرقىّ الموجع/ سمائك المليئة بالنجوم/ قد تحولت إلى الأحمر الدموى. شرقىّ المعذب/ ذكرياتى الحارقة/ بالأمس غنيت لك/ واليوم أبكيك. لأنى كنت بالقرب منك/ ذلك اليوم فى جنين/ حين صرخت لماذا/ أمام أطلال منازلك. وقلبى أدمى/ فى أحد الليالى فى تل أبيب/ حين رقص شبابك/ حتى أتاه الموت».