أتساءل أحيانا كيف تعمل مؤسسات الدولة وسط هذا الصخب الإعلامي المجنون.. بل إن البعض يتساءل من يحكم مصر الآن هل هي فعلا مؤسسات الدولة أم هو الشارع السياسي أم هو الإعلام.. ما بين ضجيج الفضائيات وجنون الفيس بوك والتويتر والإنترنت وما بقى من تأثير الصحافة المطبوعة تتسرب الأيام من أيادي المصريين يوما بعد يوم بلا عمل أو انجاز.. إنهم يقضون الليل كاملا أمام برامج التوك شو فكيف يذهبون إلى أعمالهم في الصباح.. وما بين التويتر والفيس بوك والنت يقضي ملايين الشباب أعمارهم حيث لا فكر ولا ثقافة.. وما بين انقسامات الصحافة بين مؤيد ومعارض سقطت أقلام كثيرة هذا يؤيد العهد البائد وينتظر الجزاء والعودة، وهذا يتباكى على الإخوان بالحق والباطل، وهذا يسأل كيف رفع الإعلام الثوار إلى أعلى المراتب في يوم من الأيام وكيف أسقطهم بهذه الشراسة؟!.. من يشاهد الفضائيات ويرصد تحولاتها سوف يكتشف اننا أمام جرائم أخلاقية ومهنية بل ووطنية وما بين عهد ثار الشعب عليه وجماعة كان الفشل مصيرها مازال الصراع دائرا بين فلول الوطني والإخوان وما بينهما مستقبل غامض وللاسف الشديد ان الإعلام هو ساحة الصراع بين مصالح لا تضع اعتبارا لوطن يعيش محنة وشعب تمزقه الانقسامات. إن الإعلام هو الذي يحكم مصر الآن.. بل إن مؤسسات الدولة المصرية تقف أمام الإعلام وهي في حالة ارتباك شديدة والسبب في سطوة الإعلام ليس لأنه إعلام جيد ومحايد وشريف ولكن لأنه إعلام يمارس الكثير من أعمال البلطجة.. وما بين بلطجة الشارع السياسي ابتداء بإرهاب الإخوان وانتهاء بالفوضى غير الخلاقة وأذنابها يقف الإعلام المصري يخيف الناس بالباطل ويطاردهم ليلا ونهارا وهو يعلم انه يمارس دورا لا يتناسب مع رسالته في الحياة.. هناك صور ثابتة على شاشات الفضائيات المصرية وهي صور الشهداء والقتلى منذ قامت ثورة يناير حتى الآن مرورا على ثورة 30 يونيو.. هذه الصور جعلت المواطن المصري أمام التكرار والإصرار يعيش حالة من الإحباط والكآبة لم يستطع ان يتجاوزها والغريب في الأمر هو اعتياد الأطفال والأجيال الجديدة على هذه الصور بحيث أصبحت جزءا لا يتغير من حياتنا.. إذا كان في ثورتي يناير ويونيو أشياء جميلة اختزنها الوجدان المصري فإن صور القتلى على الشاشات والتي نراها كل يوم مئات المرات خلقت جوا من الكآبة ترسخ مع الوقت وأصبح صورة مكملة لأحداث الثورة.. هذا الدور السلبي يحسب على الإعلام المصري أمام هذا الإلحاح اليومي بهذه الأحداث والصور الدامية. استطاع الإعلام المصري ان ينجح نجاحا مذهلا في تقسيم الشارع السياسي وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد قسمت المصريين إلى فصائل ما بين مؤمنين وكفار فإن الإعلام المصري نجح في تقسيم المصريين إلى ثوار وفلول وإخوان وبين هؤلاء تيارات أخرى تعبث هنا وهناك.. كان الإعلام سندا حقيقيا للثوار في ثورة يناير ووقف معهم بإصرار وعزيمة، وكان هؤلاء يتنقلون كل ليلة على الفضائيات وسط تشجيع مذهل ولم يستمر الأمر طويلا وسرعان ما انتقل الإعلام إلى ثورة 30 يونيو ورأينا من يدعي ان يونيو هي الثورة الحقيقية وان يناير كان مجرد انتفاضة مهدت للثورة الأم بل هناك من ادعى انها كانت مجرد مؤامرة.. ولم يتردد الإعلام في تشجيع المواجهات بين الثوار وكلهم شباب واعد.. ووسط هذا الصدام كانت فلول النظام البائد تتسلل إلى الشاشات كل ليلة بدعم مريب من الإعلام المصري تتحدث عن المؤامرة الكبرى في ثورة يناير مع اتهامات باطلة وتسجيلات لأحاديث خاصة واقتحام لخصوصيات الناس دون رادع من ضمير أو أخلاق.. لعب الإعلام المصري كل هذه الأدوار كان ابواقا للنظام السابق وهو على قيد الحياة.. وكان سندا للثوار بعد ان نجحوا في إسقاطه.. وكان مؤيدا للإخوان وهم في السلطة ثم كان مؤازرا لثورة يونيو وسيفا مسلطا على ثوار يناير وبين هذه الأدوار جميعا كانت هناك مصادر تمويل سرية لا أحد يعرف عنها شيئا.. ان الغريب في الأمر ان الدولة المصرية أعلنت أكثر من مرة ان لديها معلومات مؤكدة عن مصادر تمويل معروفة وأموال خارجية اقتحمت الإعلام المصري ولم تكشف مؤسسات الدولة عن حقيقة هذه الأموال ومن اين يتلقى الإعلام المصري هذا الدعم.. على جانب آخر فإن الصخب السياسي والغيبوبة الفكرية التي وصلت بالعقل المصري إلى هذه المحنة كان الإعلام من أسبابها الأساسية حين غابت الثقافة الحقيقية وسطت على العقل المصري موجات من الفن الهابط والبرامج التافهة.. إن سطحية العقل المصري وماوصل اليه من التراجع يتحمل الجزء الأكبر منها هذا الإعلام المشوه الذي لا يدرك مسئولياته الحقيقية. تحاول الآن وسط هذا الصخب ان تبحث عن الدور الثقافي للإعلام المصري أين البرامج الثقافية على الفضائيات.. أين الفنون الرفيعة وأين أفلام السينما المصرية في عصرها الذهبي وأين نجوم الإبداع المصري في الرواية والشعر والمسرح وبقية الفنون.. إن ذاكرة السينما المصرية الآن أصبحت ملكا للفضائيات العربية ولم يعد من حق القنوات المصرية الخاصة والحكومية تقديم هذه الأفلام.. لقد اختفت تماما أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومن أراد ان يسمع ويشاهد هذا الفن الجميل عليه ان يتجه إلى الفضائيات العربية. لا أحد يعلم ماذا بقى من هذا الإبداع في مكتبة التليفزيون وكيف يمكن الإستفادة من هذا التراث التاريخي لعرضه على قنوات التليفزيون بما فيها القنوات الخاصة وبدلا من هذا السيل الذي يطاردنا من المسلسلات التركية لماذا لا يبيع التليفزيون المصري أعمالا من مكتبته التاريخية بكل ثرائها للقنوات الخاصة المصرية.. بل إن تاريخ السينما المصرية الذي أصبح الآن حكرا على الفضائيات العربية ينبغي استرداده وكانت هناك محاولات لشراء هذه الأفلام مرة أخرى بأرقام مذهلة. إن غياب الفن المصري عن الإنسان المصري جريمة في حق الفن والتاريخ والإبداع.. إن أخطر ما يهدد الإعلام المصري الآن هو التركيز الشديد على المستنقع السياسي الذي غرق فيه المصريون بحيث تحولت السياسة إلى وجبة يومية للمواطن المصري بكل ما فيها من مصادر الإحباط والاكتئاب والانقسام في الشارع المصري. على جانب آخر فإن المعارك والصراعات التي تدور على النت والفيس بوك وتويتر تمثل أمراضا اجتماعية تسللت إلى حياة المصريين وأدت إلى ظواهر جديدة كان أخطرها لغة الحوار الهابط والبذاءات والشتائم بجانب الظواهر الأخلاقية التي لا تتناسب مع ثوابت المصريين وأخلاقياتهم.. إن الانفتاح على العالم الخارجي أصبح الآن ضرورة إنسانية وحضارية وثقافية ولكن علينا ان نتصدى للأمراض القادمة الينا حتى لا نكون من ضحاياها وما اكثرهم.. إن المنع أو الحجب أمر مستحيل ولكن الوعي والترشيد طريقنا للمواجهة. لا يستطيع أحد ان ينكر أو يتجاهل دور الإعلام في هذا العصر ولكن ينبغي ان نسعى إلى تأكيد جوانبه الايجابية في بناء الشعوب بحيث لا يتحول إلى أدوات تخريب ودمار. ان غياب دور الدولة في الإعلام المصري اجراء غير صحي وهو لا يتناسب مع ظروف شعب يمر بمنعطف تاريخي صعب.. كيف نترك الإعلام تحت شعار "السداح مداح" والحريات وحقوق الإنسان ونحن نواجه مؤامرات متعددة داخليا وخارجيا وكيف تسمح دولة وحكومة مسئولة بهذا التدخل الشرس لرأس المال في تغييب العقل المصري وتشويه ثوابته.. إن الحرية لا تعني أبدا انسحاب الدولة بهذه الصورة من الساحة الإعلامية وهذه ليست دعوة للرقابة وفرض السيطرة أو الوصاية ولكنها دعوة للانضباط والحرص على مصالح الوطن.. إن ما يجري في الإعلام المصري من الحشود والصراعات والمعارك يمثل دعوات صريحة لانقسام المجتمع بكل ما يحمله ذلك من مخاطر على المستوى السياسي والفكري والاجتماعي.. كما ان تمويل الإعلام المصري قضية لا ينبغي ان تتغاضى عنها الدولة خاصة إذا تحولت أدواته إلى آداء أدوار مشبوهة تهدد أمن المجتمع وسلامته. ولا يعقل ان نترك الإعلام المصري يهدد مكونات الشخصية المصرية بكل تاريخها الثقافي والفكري وان يتحول إلى وسيلة لانتشار البلاهة الفكرية في برامج ساذجة وفنون هابطة وحوار رخيص.. وهذا أيضا يتطلب التنسيق بين الفضائيات المصرية لتحقيق هدف واحد هو زيادة وعي المواطن والارتقاء بمستواه الفكري والسلوكي وبدلا من ان تتنافس الفضائيات المصرية على تنوير العقول وزيادة الوعي فهي تتنافس على السطحية وتضييع وقت الناس في تفاهات يومية.. ان السطحية الشديدة التي اجتاحت الأداء الإعلامي في مصر أدت إلى تشوهات كثيرة في الشخصية المصرية وهذه من أخطر المناطق وأكثرها سلبية في الرسالة الإعلامية. إن غياب الفن المصري الأصيل والثقافة المصرية الرفيعة الجادة عن الإنسان المصري جريمة في حق الوطن وينبغي البحث عن هذا التراث وإعادة تقديمه بصورة عصرية ولدينا مخزون ثقافي كبير في السينما والمسرح والغناء وبقية الفنون وهنا يجب إحياء هذا التراث في مكتبة التليفزيون المصري والتفاوض مع الفضائيات العربية لاسترداد ما لديها من هذا التراث لأنه حق لنا جميعا. ينبغي ان يتخلص الإعلام المصري من تلك الدوافع الشريرة التي جعلت البعض يسعى بقوة إلى تقسيم الشارع المصري سياسيا ودينيا واجتماعيا وان يكون الهدف هو توحيد هذا الشارع نحو غاية واحدة هي الأمن والاستقرار وإعادة البناء.. لقد انقسم الشارع المصري حتى وصل إلى أصغر نقطة فيه وهي الأسرة ولا أحد يعرف ما هو الهدف من ذلك وما هو المستقبل والمصير. إن الإعلام رسالة مقدسة وهو صاحب دور كبير في ترشيد الوعي وتأكيد جوانب الانتماء وهذا لا يعني ان تتحول المنابر الإعلامية إلى زعامات سياسية بالصراخ والصخب المجنون، إن الفكر السياسي حق لكل من يريد ولكن الأبواق السياسية والزعامات الكاذبة في منابر الإعلام قضية اخرى يجب ان نحترم الرأي الآخر وان يقوم الحوار على لغة راقية وفكر مستنير بعيدا عن صخب الإتهامات والتصنيف. تبقى بعد ذلك نقطة أخيرة ان يحتكم كل صاحب فكر ورأي وقلم إلى ضميره والوطن يعيش محنة قاسية وان يدرك الجميع ان تقسيم مصر خيانة واشعال الفتن بين أهلها دمار وتسطيح عقل شبابها جناية ولهذا على الإعلام المصري ان يراجع نفسه وأساليبه وأدواته وتمويله قبل ان يخسر كل شىء. إن الصخب الإعلامي لن يبني وطنا.. والتفاهات اليومية لا تصنع انسانا وروائح المال الكريهة سوف تحاصر أصحابها كلما أطل نداء الشرف والترفع والفضيلة. ..ويبقى الشعر فى الركن ِ يبدو وجهُ أمى لا أراهُ لأنه سكنَ الجوانحَ من سنينْ فالعينُ إن غفلتْ قليلا ً لا ترى لكن من سكنَ الجوانحَ لا يغيبُ وإن توارى .. مثلَ كل الغائبينْ يبدو أمامى وجهُ أمى كلما اشتدتْ رياحُ الحزن ِ.. وارتعدَ الجبينْ الناسُ ترحلُ فى العيون ِ وتختفى وتصيرُ حزنًا فى الضلوع ِ ورجفة ً فى القلبِ تخفقُ .. كلَّ حينْ لكنها أمى يمرُ العمرُ أسكنُها .. وتسكننى وتبدو كالظلال ِتطوفُ خافتة ً على القلبِ الحزينْ منذ ُانشطرنا والمدى حولى يضيق وكل شىء بعدَها .. عمرٌ ضنين صارت مع الأيام ِ طيفًا لا يغيبُ .. ولا يبينْ طيفًا نسميه الحنينْ .. فى الركن ِ يبدو وجهُ أمى حين ينتصفُ النهارُ .. وتستريحُ الشمُس وتغيبُ الظلالْ شىءٌ يؤرقنى كثيرًا كيف الحياة ُ تصيرُ بعد مواكبِ الفوضى زوالا ً فى زوالْ فى أى وقتٍ أو زمان ٍ سوف تنسحبُ الرؤى تكسو الوجوهَ تلالُ صمتٍ أو رمالْ فى أى وقتٍ أو زمان ٍ سوف نختتم الروايةَ.. عاجزينَ عن السؤالْ واستسلمَ الجسدُ الهزيلُ .. تكسرت فيه النصالُ على النصالْ هدأ السحاب ونام أطيافًا مبعثرة ًعلى قمم الجبالْ سكنَ البريقُ وغابَ سحرُ الضوء ِ وانطفأ الجمالْ حتى الحنانُ يصير تَذكارًا ويغدو الشوق سرًّا لا يقالْ فى الركن ِ يبدو وجهُ أمى ربما غابتْ .. ولكنى أراها كلما جاء المساءُ تداعبُ الأطفالْ "من قصيدة طيف نسميه الحنين سنة 2009" نقلا عن جريدة الأهرام