سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الشاعر الكبير فاروق جويدة يكتب:ثقافة مصر أم ثقافة الإخوان..الثورة أصبحت لعنة بدلا من أن تكون ميلادًا جديدا..والانقسامات وصلت بنا لتصنيف الناس ما بين مؤمن وكافر..ووزير الثقافة هبط على الوزارة دون معرفة
خرج المصريون من أحداث ثورة يناير وهم يعانون أسوأ أنواع الانقسامات فى الفكر والمواقف والحسابات، وبدلاً من أن تكون الثورة ميلادا جديدا لشعب جديد أصبحت لعنة الانقسامات هى أخطر ما يهدد ثوابت هذا الشعب.. كانت الانقسامات السياسية فى مقدمة الأمراض التقليدية التى أصابت الكيان المصرى المتماسك، ثم جاءت الانقسامات الدينية حتى وصلت بنا إلى تصنيف الناس ما بين مؤمن وكافر.. ولم يخل الأمر من انقسامات فئوية ترتبت عليها حقوق للبعض بينما حرم منها البعض الآخر. وسط هذه اللعنة التى أطاحت بكل أحلامنا فى الأمن والاستقرار والتواصل جاء وزير الثقافة الجديد د.علاء عبدالعزيز ليشعل النيران فى صفوف المثقفين المصريين، عقل الأمة وضميرها الحى تحت دعاوى التطهير، ولم يتردد الوزير الجديد فى الإعلان عن خططه لإقصاء جميع التيارات الثقافية والفكرية، واعتبر نفسه بطلا أسطوريا جاء ليخلص المصريين من أزمنة الشرك الثقافى والضياع الفكرى ويبشرهم بالجنة الموعودة فى ثقافة أخرى بديلة تعيد للمصريين هويتهم الضائعة ولم يحدد لنا ما ملامح هذه الثقافة لأنه فيما يبدو لا يعلم. هبط وزير الثقافة الجديد على وزارة الثقافة دون معرفة سابقة فلا هو صاحب تاريخ فكرى ملموس ولا هو صاحب مواقف تعكس دورا حقيقيا فى منظومة الثقافة المصرية وأمام هذا الغياب وهذا الغموض لم يجد الرجل أمامه من فرصة لإثبات وجوده كمسئول غير أن يفجر الوسط الثقافى كله، مستبعدا عددا كبيرا من الأسماء والرموز الثقافية التى لعبت دورا كبيرا فى تاريخ الثقافة المصرية. من حق أى مسئول فى موقع جديد أن يختار مساعديه ولكن هناك فرقا كبيرا بين من يبحث عن مساعدين ويستبدلهم بآخرين ومن يبحث عن أنصار وكأنه يخوض غزوة دينية.. من البداية أخطأ وزير الثقافة حين أشعل الفتنة فى الوسط الثقافى متصورا أن هذا الدخان الكثيف يمكن أن يحجب الرؤى حتى يكمل خطته التى وضع لها عنوان هو التطهير وهى فى حقيقتها محاولة ساذجة للخروج بالثقافة المصرية عن مسارها متعدد الألوان والأفكار والرؤى.. جاء الوزير الجديد وعلى نفس منهج الإخوان المسلمين حيث قرر إقصاء كل صاحب فكر مخالف رغم أن الإخوان أنفسهم عانوا زمنا طويلا من سياسات الإقصاء والإبعاد والتهميش. إن وزير ثقافة مصر يختلف عن أى منصب آخر، إنه شىء كبير جدا لأن هذا المكان جلس فيه ثروت عكاشة وعبدالمنعم الصاوى ويوسف السباعى ومنصور حسن وشاب مجتهد يسمى عبدالحميد رضوان، ولأن هذه الوزارة جمعت فى كواليسها رموز الثقافة المصرية عبر سنوات طويلة ابتداء بطه حسين والعقاد وانتهاء بالحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس والشرقاوى وبنت الشاطئ وسهير القلماوى وخالد محمد خالد والباقورى والغزالى وإحسان عبدالقدوس وعبدالصبور.. كان وزير ثقافة مصر هو الوجه المضىء فى كل العواصم العربية لأنه يحمل ثقافة شعب عريق.. وكانت الثقافة المصرية أفضل وأقيم وأجمل ما تقدم مصر للعالم آثارا وتاريخا وفنا وغناء ومسرحا وأفلاما.. لا يوجد مثقف عربى كبير إلا وعبر بإبداعه من قاهرة المعز.. ومن بين صفوف الإخوان المسلمين الذين يسعون الآن إلى تغيير هوية مصر الثقافية أسماء كثيرة أضافت للعقل العربى الكثير من الضوء.. وحين يأتى وزير الثقافة الجديد فى ظل حكم الإخوان ويلقى كل هذه الألغام فى الساحة الثقافية تحت دعوى تطهير الثقافة فهذه بداية خاطئة حتى لو افترضنا أنه شخصيا على خلاف مع ثوابت الثقافة المصرية الحالية. ما الذى أغضب د.علاء عبدالعزيز فى ثوابت الثقافة المصرية المعاصرة.. هل هو الإبداع؟ وماذا يقول عن أرض أنجبت فى الرواية عشرات من كبار المبدعين؟ ماذا يقول عن حديقة أنجبت فى عصرها الحديث عشرات الشعراء وكتاب السيناريو ونجوم الغناء والسينما والمسرح؟.. من الخطأ الجسيم أن يلوم وزير الثقافة الأجهزة الثقافية لأن الجمهور غائب عن إبداع المبدعين ولكن كان ينبغى أن يلوم هؤلاء الذين حرّموا الفن واعتبروه رجسا من عمل الشيطان وكفّروا نجيب محفوظ وشوهوا منظومة مصر الثقافية وضللوا شبابنا الواعد ودفعوا به إلى سراديب الجهل والتخلف. كان ينبغى أن يراجع الوزير مع شيوخه القضايا التى حكمت بالسجن على أشخاص استباحوا حرمة الفنانات والفنانين لأن عملا فنيا سيئا لا يمكن أن يخفى أو يشوه آلاف الأعمال الفنية الرائعة. كنت واحدا من كثيرين حذروا فى ظل النظام السابق من تشويه صورة الثقافة المصرية ودورها وريادتها وأشرت فى عشرات المقالات إلى تراجع الدور الثقافى المصرى أمام محاولات كثيرة لتهميش هذا الدور لحساب قوى أخرى وحذرت يومها من سوء أحوال التعليم وفساد الإعلام وطالبت كثيرا برعاية هذه المنظومة الثلاثية لأنها أساس بناء الإنسان المصرى وهى الثقافة والتعليم والإعلام.. إن وزير الثقافة أهم منصب وزارى فى مصر لأنه يحمل أجمل وأرقى وأعظم تيجان هذا الوطن. أخطأ وزير الثقافة الجديد حين تصور أنه جاء ليطوى صفحة الثقافة المصرية التى لا يحبها ولا يقتنع برموزها لأن أعظم ما فى هذه الثقافة هو الاختلاف والتنوع بل التناقض أحيانا.. أن فيها كل ألوان الطيف فإذا كان الوزير يريدها لونا واحدا وتيارا واحدا وفريقا واحدا فليبحث عن مكان آخر.. فى ثقافة مصر تجد الأدب والغناء والمسرح والأوبرا والموسيقى واللوحة والقصيدة وفيها تجد جميع المواقف من أقصاها عند كارل ماركس ولينين إلى أعلاها فى الفكر الدينى المستنير.. وتجد أسماء كبيرة جدًا بدأت رحلتها مع ماركس وانتهى بها المطاف إلى الغزالى ومحمد عبده والشيخ شلتوت.. من العار أن يكون وزير ثقافة مصر مفتقدا هذه الروح التى قامت دائما على التسامح والحوار والإقناع والحجة ومن الخطأ أن يتصور صاحب القرار أنه جاء ليغير الأشياء بسلطانه فلا سلطان أمام الإبداع وكل السلاطين أمام المبدع الحقيقى مجرد أرقام زائلة. كان من الغريب أيضا أن وزير الثقافة جاء بدعوة إصلاحية لتحقيق العدالة الاجتماعية بين موظفى وزارة الثقافة وهذا مطلب مشروع، ولكن أين فكر الرجل؟ وأين رؤاه الثقافية والفكرية؟ وكيف يرى مستقبل الثقافة المصرية وسط متغيرات خطيرة نشهدها على المستويين الداخلى والخارجى؟ كيف يرى وزير الثقافة الهجمة الظلامية شديدة السواد التى تسعى لاجتياح مصابيح الثقافة المصرية؟ كيف يرى دور مصر الثقافى عربيا ودوليا؟ كيف يرى تراث مصر الثقافى الذى أهملناه زمنا طويلا؟ كيف يرى الإبداع المصرى الآن وهل هذا المناخ الذى نعيشه يمكن أن ينتج إبداعا حقيقيا؟ أم أن أساليب البطش والاستبداد لا يمكن أن تكون أرضا صالحة لإبداع حقيقى؟ إذا كان وزير الثقافة الجديد قد جاء لتحقيق العدالة بين موظفى الوزارة فى الرواتب والامتيازات والمكافآت فإن أفضل مكان له هو إدارة شئون العاملين فى الوزارة لأنه الآن مطالب بأن يقدم فكرا جديدا وبرامج ثقافية حقيقية تضيف للثقافة المصرية كل جديد. أمام وزير الثقافة إذا كان باقيا فى مكانه اختبارات كثيرة.. كيف يعيد للمسرح المصرى تألقه؟ وكيف تستعيد السينما المصرية ريادتها؟ وكيف يجد المواطن كتابا ثقافيا بثمن مناسب؟.. إن الوزير يلوم على بعض المسئولين فى القطاعات الثقافية أنهم ينفقون أموالا كثيرة بلا عائد ونسى أنه مسئول عن فكر شعب وهناك فرق بين وزارة التموين والنقل ووزارة الثقافة لأن الثقافة كانت وستبقى خدمة كالماء والهواء وأن الإنفاق فيها استثمار بشرى وليس استثمارا سياحيا ومن الخطأ أن يتصور أن تدار بأساليب تجارة الجملة أو أسواق الخضار.. كان ينبغى قبل أن يفجر وزير الثقافة كل هذه الألغام فى وجه المثقفين المصريين أن يجلس مع نفسه ومع من يثق فيهم ليقدموا للشعب المصرى خطة ثقافية واعية ومضيئة ومستنيرة وأن يجلس مع رموز الثقافة المصرية ويسمع منهم ويقدم لهم تصوراته لأنه لا يبدأ من فراغ.. فهناك رصيد ثقافى ضخم صنعته عقول هذا الشعب عبر سنوات طويلة ومن الخطأ أن يتصور أنه جاء لينقذ الثقافة المصرية بالفضائيات الدينية أو مشايخ الغفلة ودعاة الإرهاب الفكرى والدينى. الذى أعرفه أن الوزير الجديد درس فنا من أجمل الفنون فى مصر وهو السينما ولا أدرى كيف سيتعامل مع خريطة الثقافة المصرية وهو يسير معصوب العينين؟.. يجب أن يفتح الوزير عقله وفكره لكل صاحب رأى وكل صاحب فكر.. أما أن يجلس فى الوزارة يستنجد بالأنصار والمؤيدين فى معركة خاسرة فهذا ضياع للوقت والجهد وتشويه لصورة الثقافة والمثقفين.. وإذا أصر الوزير على الوقوف فى هذا الركن المظلم الذى اختاره لنفسه متصورا أنه سيطفئ كل الأنوار فليجلس فيه وحده مستمتعا بانقطاع التيار الكهربائى هذه الأيام أما الثقافة المصرية فسوف تبقى دائما مضيئة فى عهد الإخوان وما قبل الإخوان وما بعد الإخوان لأنها تحمل تراث شعب عظيم وأمة متحضرة. على الوزير الجديد د. علاء عبدالعزيز أن يختار إما أن يكون وزيرا لثقافة مصر.. وإما وزيرا لثقافة جماعة الإخوان المسلمين وإذا اختار الإخوان فعليه أن يرحل.