كلما يطل البابا شنودة الثالث عبر منبر إعلامى أو مناسبة اجتماعية ينتظر الجميع آراء ساخنة وتعليقات قوية فى الشأن القبطى.. لاتفوت مناسبة حتى تطارده الأسئلة والاستفسارات التى تطلب التعرف على موقفه من القضايا الكنسية المتداولة! فى لقائه مع أعضاء أحد الأندية الاجتماعية فى مصر الجديدة حاصرت المسئول الأول عن الأقباط مجموعة من الأسئلة الشائكة التى تبحث عن إجابة من قداسته توضح الرأى الرسمى للكنيسة فى كل القضايا التى تخص الأقباط!! البابا يستغل الفرصة لحسم الجدل الدائر فى الشارع السياسى بعد أن أعلن رفضه تعديل المادة الثانية من الدستور والتى تنص على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، خصوصا بعد تصاعد أصوات قبطية تطالب بتعديلها واعتبر بقاء النص كما هو دون تعديل لايشكل أى قلق بالنسبة للأقباط فى مصر، بل إنها ربما تساهم فى ترسيخ أمن واستقرار الوطن، وهو الهدف الأسمى الذى يسعى إليه المسيحيون والمسلمون على السواء!! بكلمات محددة وصريحة فسر البابا وجهة نظره قائلا: حالة السلام والأمن القومى لمصر لن تحددها النصوص، أو هو الأمر الذى تحتاجه مصر حاليا، بل الأهم من كل ذلك أن تسود روح التسامح والمحبة بين كافة أبناء الشعب المصرى، فقد أثبتت التجربة أن أخطاء الأفراد هى التى تسبب المشاكل وليست النصوص!! «شنودة» تطرق لموقف الكنيسة من التعديلات الدستورية عموما، وأكد مجددا على ثقة الكنيسة فى أجهزة الدولة فيما يتعلق بوضع الأقباط بالنسبة للتعديلات الدستورية وحثهم على تركها لأولى الأمر ليتخذوا ما يرونه يحقق المصلحة العليا، ليس فقط للأقباط بل للوطن كله، وأشار بابا الأقباط الأرثوذكس إلى ضرورة عدم إقحام الكنيسة فى هذه القضية الشائكة لتجنب الخلافات بين رجال الدين، وضرورة ترك المناقشات بشأن الدستور بين المفكرين السياسيين بعيدا عن تدخلات رجال الدين من الجانبين!! برودة الجو لم تنجح فى تهدئة الأجواء الساخنة فى اللقاء والذى تطرق لمناطق شائكة وإشكاليات كنسية يواجهها الأقباط مما دفع البابا شنودة - الذى بدا فى كامل لياقته الصحية - أن يحرص على أن تسود روح الدعابة والسخرية الذكية تعليقاته فى محاولة منه لتجاوز حرج الأسئلة، وكان اللافت اختياره «الهدوء» كعنوان لمحاضرته القصيرة التى افتتح بها الأمسية الثقافية فيما يعد إسقاطا من قداسته لتهدئة الحضور الثائر من الضجيج المستمر فى الشارع القبطى، والتى اتخذ منها مدخلا لانتقاد الصحف المعنية بالشأن القبطى معتبرا أن بعض هذه الصحف لايحب العيش فى هدوء، وأن القائمين عليها يفتقدون فضيلة «الهدوء»، وعلق قائلا: «كل عناوينهم تعكس ما بداخلهم حتى إن مطالعة بعضها تصيب الإنسان بعدم الاتزان وفقدان الثقة فى كل شىء!! أولى المناطق الملغمة فى لقاء البابا جاءت عبر سؤال حول رأيه فى كتابات المفكر القبطى «جمال أسعد» فأجاب قداسته قائلا: «لماذا لاتسألوه هو؟!، وهل من واجبى الرد على كل سؤال؟!». هناك من يريد تعطيل عملنا الإيجابى، وإلهاءنا بالسلبيات!! السؤال تبعه استفسار عن موقفه من بعض المفكرين الذين يتحدثون باسم الأقباط فى وسائل الإعلام بشكل دائم؟ الإجابة كشفت عن رأى سلبى من البابا بالنسبة للمثقفين الأقباط، حيث قال: أندهش عندما أقرأ أو أسمع أن «فلان» مفكر قبطى، وأتساءل: هل هذا الشخص هو المفكر القبطى والآخرون من الأقباط لايفكرون؟! وتتضاعف دهشتى عندما أعلم أن أغلب هؤلاء الأشخاص ليست لهم أية إضافة كنسية أو حتى فى الحياة العامة، لكن هناك صحفا تتعمد اللجوء إليهم دون أسباب واضحة وأقول لهم «ابقوا قابلونى لو رديت عليكم»! البابا وجه رسالة واضحة وصريحة إلى وسائل الإعلام التى تستعين بهؤلاء المفكرين الأقباط فى محاولة لتحجيم مساحتهم فى الصحف عندما قال: «يجب على وسائل الإعلام اللجوء للكنيسة لترشح لهم الشخص المناسب ليتحدث فى القضايا الكنسية حتى لايظل الباب مفتوحا أمام من يسمون أنفسهم بالمفكرين!!». وكان من الطبيعى أن يمتد الحديث لظاهرة ظهور رجال الدين المسيحى على شاشة الفضائيات بما يسىء إلى الكهنوت، رغم أن «البابا» أشار إلى رفضه ظهور رجال الدين بهذا الشكل الذى يسىء إليهم وللكنيسة، استنادا لرأيه بأنه لايجوز أن يشارك الكهنة فى الأحاديث الجدلية عبر وسائل الإعلام.. إلا أنه حاول الظهور فى صورة المدافع عن الحريات قائلا: «لا أتحمس لفكرة منع أحد من إبداء رأيه، ولو كنت أريد المنع، لكنت شددت العقوبات لضمان عدم تكرار ظهور الإكليروس فى الفضائيات!». ورغم تحفظ البابا على الحديث فى أزمة الأنبا كيرلس - أسقف نجع حمادى - إلا أنه تبدلت ملامحه وغابت عن وجهه ابتسامته المعهودة عندما تم توجيه سؤال بخصوص تلك الأزمة وحاول الخروج من الإجابة المباشرة إلى الحديث فى هذا الأمر بشكل عام، وعلق قائلا: «لايجوز أن نتطرق لسلوك أسقف فى اجتماع عام، ومع ذلك نحن للأسف الشديد نعيش فى أجواء تحكمها الشائعات، فلم يمنع الأنبا «كيرلس» من دخول نجع حمادى، وهناك تحقيق لايزال يجرى بشأن هذه الدعاوى! وكشف البابا عن نيته فى عدم التطرق إلى تعديل شكل المحاكمات الكنسية وسريتها رغم الأصوات التى تنادى بعكس ذلك، والدليل ما قاله عن عدم جواز ما يحدث داخل المجمع المقدس واعتبره سرا لايجب أن تلوكه الألسنة ووسائل الإعلام، وصرح قائلا: تعودنا أن تكون التحقيقات مع الكهنة سرية حرصا على سمعة رجال الدين، حتى من يتم شلحه منهم لانذكر أو نعلق الأسباب حفاظا على حياتهم الأسرية والاجتماعية بل تلتزم الكنيسة بدفع رواتبهم كاملة لأنهم يعولون أسرهم التى لاذنب لهم فى الشلح، ومع ذلك لايتوقف هؤلاء عن سبنا على صفحات الجرائد بشكل منظم! ولم يكن من الممكن ظهور البابا إعلاميا دون إثارة ملف فصل «جورج حبيب بباوى» من الكنيسة الأرثوذكسية، حيث أكد أن «حبيب» هو الذى فصل نفسه بنفسه، وليس الكنيسة.. ودلل على ذلك من خلال ما ورد فى كتاب حبيب «القضية الكنسية».. واستشهد «شنودة» إلى نص ما فى الكتاب الذى قال فيه «منذ عام 57 إلى 84 كنت فى الكنيسة الأرثوذكسية، ثم من عام 84 حتى 2004 انتقلت إلى الكنيسة الروسية، وعلق قائلا: «على ما تقدم فهو ليس تابعا لكنيستنا، فهو أصبح روسيا «أنا مالى به» فقد انضم لكنيسة أخرى وقرار فصله كان بالإجماع وليس قرار البابا وحده، فحتى الأساقفة الذين تغيبوا عن تلك الجلسة أرسلوا موافقتهم على القرار بالبريد، ولاتوجد وراء قرار الفصل أسباب شخصية، بل هى أسباب لاهوتية ليس من السهل طرحها على العامة لصعوبة تقبلها!». شنودة اقتبس من أقوال «بباوى» لتوكيد وجهة نظره قائلا: فى أحد كتبه أخذ يقول «لايوجد سوى كاهن واحد فى السماء والأرض هو المسيح»! وعلق على هذه المقولة حتى ينفى تهمة الفصل دون محاكمة: «كيف يقف بباوى أمام أعضاء المجمع المقدس وكل أعضائه من الكهنة، وهل يعترف بكهنوتهم؟!». من أزمة لأخرى يتنقل بابا الأقباط مع محدثيه، ولعل أهمها توالى حوادث الانشقاق على الكنيسة سواء من «ماكسيموس» وتلاه «هابيل توفيق» حيث أرجع هذه الظاهرة إلى هامش الحرية المتاح وسوء استخدامه، وأشار إلى أنه تردد إلى مسامعه أن المدعو هابيل توفيق مسجون حاليا!! البابا ارتكن لرواية طريفة للتعليق على الباباوات الجدد الذين رسموا أنفسهم أمامه مثل ماكسيموس وهابيل قائلا: فى زيارة لطلاب كلية الطب لمستشفى الأمراض العقلية وجدوا شابا يردد: أنا رسول الله.. ثم التفتوا فوجدوا شخصا آخر هادئا فسألوه: لماذا لا تنضم إلى هذا الرجل؟ فرد عليهم: «لاتصدقوه فلم أرسله ولا حاجة»!! وعندها ضجت القاعة بالضحك! انتقل النقاش حول جهوده فى إعادة الأوقاف القبطية إلى الكنيسة، فرد البابا الفضل لصاحبه فى حسم هذه القضية د.حمدى زقزوق - وزير الأوقاف - الذى شكل لجنة مشتركة كان من نتائج عملها إعادة الكثير من الأوقاف القبطية، وعلق شنودة قائلا: أتصور لولا وجود شخص مثل الدكتور زقزوق فى هذا المنصب كان الأمر يبقى على ما هو عليه، فقد حاولت طوال أكثر من 30 عاما حسم هذه القضية، لكن كانت دائما المعوقات والروتين يعطل حسمها إلى أن تحمس لها وزير الأوقاف بنفسه حتى تم حلها مثل مشاكل كثيرة ساهمت أجهزة الدولة فى حلها خلال السنوات الأخيرة. البابا أشار إلى أن لكل كنيسة مصرية فى الخارج صحيفة ولكنها لا تتطرق إلى القضايا الطائفية، كما لا يوجد تصريح كنسى يتعلق بهذه القضايا فمنهجنا يقوم على أساس أن جميع مشاكل وأمور الأقباط يتم حلها بالتفاهم مع الدولة ونناقش مشاكلنا هنا فى الداخل على أرض الوطن.. لأننا نعرف المشاكل ونتناقش معا حول طرق حلها، وهذا ينطبق على القضايا السياسية أيضا لن يتم حلها بالتدخل الخارجى بل على كل من يرغب من أقباط الخارج فى حل المشاكل التى تواجه مصر عليه أن يأتى ويعرض أفكاره وحلوله.. قطار المناقشات وصل إلي موقف الأقباط فى الخارج المثير للجدل وتعمد بعضهم الحديث باسم الأقباط وممارسة التحريض ضد مصر فى الخارج.. قال البابا: هؤلاء أشخاص يعبرون عن آرائهم هم ولا يجوز الخلط بين رؤيتهم الشخصية لما يجرى فى مصر وموقف الكنيسة أو باقى الأقباط فمثلا لدينا 150 كنيسة فى الولاياتالمتحدة وحوالى 200 قس كما أن فى الخارج حوالى مليون قبطى تقريبا هؤلاء جميعا يعيشون فى المهجر وينشغلون بحياتهم وعلمهم بعيدا عن الصراعات السياسية لكن بعض الأفراد المعدودين يتعمدون التحدث باسم الأقباط بل أن بعضهم استغل الحرية المتاحة فى بعض الدول مثل الولاياتالمتحدة فأسس مثلا الهيئة القبطية أو اتحاد الأقباط أو... فهناك حرية كلام وحرية ألقاب فكل واحد يعطى نفسه اللقب الذى يراه مناسبا.. فقد وجدت شخصا يطلق على نفسه أسقف «نبراسكا» فى الولاياتالمتحدة فيما هو ليس رجل دين، وهؤلاء المتحدثون باسم أقباط المهجر لا يدركون مدى التأثير السلبى لكل تصرفاتهم على أخوانهم فى الداخل فهم يتحدثون ونحن ندفع الثمن فى الداخل.. ولا غرابة فإن ما يحدث فى الخارج يحدث مثله فى الداخل فمثلا يصلنى فى بعض الأحيان تلغراف يقول صاحبه شعب بنى سويف يطالب بكذا وكذا والإمضاء فلان فهل هو يمثل شعب بنى سويف؟! ثم انتقل إلى قضية إحجام الأقباط على التسجيل فى جداول الانتخابات، وعلق البابا قائلا: قبل أن نتهم الأقباط بالإحجام عن المشاركة والتسجيل يجب أن نسأل هل يجدون سهولة فى عملية استخراج بطاقات انتخابية أم لا فإذا وجد بعضهم سهولة فى ذلك لا يتأخر ومن يجد معوقات لن يذهب ولن أعلق أكثر من ذلك! لم تخل أمسية البابا شنودة من بعض الشعر الذى يحفظ منه الكثير، وكان مدخلا قويا لصداقته مع الداعية الراحل الشيخ محمد متولى الشعراوى، والتى تعود إلى واقعة حدثت عام 1995 عندما كان الشعراوى يسىء دون قصد فى أحاديثه التليفزيونية مشاعر الأقباط ولم تأت البابا فرصة للرد على الشيخ، إلى أن سافر للعلاج إلى لندن فأرسل له من يسأل عنه، وبعد عودته اتصل يشكره إلى أن التقيا معا مرة أخرى أثناء تشييع جنازة إبراهيم فرج سكرتير عام حزب الوفد، وكان البابا هو الذى يلقى عظة الموت وختمها بأبيات من الشعر، وبعد انتهاء الجنازة طلب الشعراوى هذه القصيدة فأخبره البابا أنها ضمن ديوان شعرى له بعنوان «انطلاق الروح» فألح الشعراوى على نسخة بشرط أن يكتب له إهداء عليها، بعدها تبادلوا الزيارات بشكل دائم كما تبادلا الهدايا التى كان أشهرها عباءة ثمينة أهداها الشعراوى للبابا الذى أهداه كتاب لسان العرب (أمين منظور)، وكذلك العلاقة الطيبة التى تربطه مع الشيخ الدكتور سيد طنطاوى، حيث بدأت منذ تولى طنطاوى منصب الإفتاء بعدها ظلت الاتصالات واللقاءات بينهما لاتنقطع حتى اليوم.