يبدو ان بيننا وبين الديمقراطية مشوارا طويلا هذا الحلم الذي طاردنا كل سنوات عمرنا وأصبح مجرد سراب كلما اقتربنا منه تسرب من بين أيدينا.. من يشاهد الآن المشهد الانتخابي في مصر لا يصدق ان هذا الشارع المرتبك قد شهد صدور دستور رائع في عام 1923 وان هذا الوطن شهد أحزابا سياسية من طراز رفيع وان هذا البرلمان الذي نقف الآن أمامه حائرين قد سمع صيحة العقاد وهو يقول للملك فؤاد ان هذا الشعب قادر على ان يعصف بأكبر رأس فيه، ويسجن العقاد تسعة شهور بتهمة العيب في الذات الملكية وتنتصر الحرية وإرادة الشعب.. إن الأزمة الحقيقية اننا نسينا كل هذه الصفحات المضيئة من تاريخنا وصغرت أمامنا كل الأشياء حتى استبدلنا العقاد العظيم بإحدى الراقصات، واستبدلنا هيكل باشا بتجار الخردة ولم نجرؤ حتى الآن على تطبيق دستور يمنحنا قدرا من الحرية ويحد من تجاوزات السلطة أمام إرادة الشعب، هذه الأرض التي أخرجت كل هذه الأشجار العتيقة تضج الآن بالحشائش التي تسلقت على كل شئ. ان الحيرة التي تعيشها السلطة وحالة الفوضى التي يعيشها الشارع، وهذه الأشباح التي تنقلها الفضائيات تؤكد ان بيننا وبين الديمقراطية الحقيقية رحلة سفر طويلة، وان على أجيالنا التي تعبت من السفر وراء هذا الحلم ان تستريح قليلا وتستبدل هذا الحلم المكابر بأحلام صغيرة تتوافر فيها وسائل الحياة الكريمة سكنا ومعاشا وتعليما حتى تخرج من ظهورنا يوما أجيال تدرك قيمة الفكر والرأي والحوار. ان الدولة خائفة من الدستور الذي يحدد الاختصاصات والمسئوليات والعلاقة بين مؤسسات الدولة.. ولأننا اعتدنا على منطق التجاوزات في كل شئ ابتداء بإشارات المرور وانتهاء ببنود الإنفاق المالي في الميزانية، وتوزيع أصول الدولة على المحاسيب لا يريد أحد الوصول إلى لغة الحساب والمتابعة والرقابة على أداء الأجهزة المسئولة.. ومن هذا المنطلق خرجت فئة من الناس في حشد دعائي رهيب تشكك في دستور مازال حتى الآن حبرا على ورق لم تطبق منه مادة واحدة ورغم ان هذا الدستور تم إعداده على عجالة وقد أخذ أكثر من 70% من مواد دستور 2012 إلا ان الصياح ارتفع والضجيج زاد وكان ذلك أكبر دليل على اننا شعب يحارب نفسه ويرفض ان يأخذ حقه من الحرية والعدالة. لم يكن هناك مبرر على الإطلاق ان نجنح نحو الدستور في المعركة الانتخابية إلا إذا كانت وراء ذلك أغراض ونوايا.. ان الحل المنطقي ان نترك الإنتخابات تسير في مجراها ونترك الدستور يبدأ مسيرته وبعد ذلك نتعلم من تجاربنا ونستفيد من دروس الحياة. إذا كنا بالفعل جادين في مطالبنا بالديمقراطية فهل هي ديمقراطية هز الوسط أم نهب المال العام وخداع الشعب، أم هي ديمقراطية الردح والصراخ وخلع الأحذية، أنا لا أتصور ان يكون الحل ان نفتح الأبواب لهذه الفوضى إذا كنا بالفعل جادين في ان نكمل المشوار معا.. أنا لا أتصور برلمانا جاء بعد ثورتين ورحيل رئيسين وسقوط نظامين وبعد ذلك يجد المصريون أنفسهم حائرين أمام كاميرات التليفزيون وهي تنقل المشاهد بين هذه الوجوه التي تسئ لنا كشعب وسوف تكون درسا سيئا لأبنائنا الذين شاهدوا الرقص العاري وعليهم ان يشاهدوا الرقص البرلماني. هناك فصيل مصري غائب تماما عن المشهد وهم جماعة المثقفين الذين اختفى معظمهم في ظروف غامضة.. من انسحب ومن هرب ومن اصابه الاكتئاب حدث هذا رغم ان اللحظة كانت تقتضي الرأي والفكر والمشورة.. ان الأشباح التي طفت على سطح الحياة في مصر لا تمثل على الإطلاق العمق الحضاري والتاريخي وحتى الأخلاقي للمصريين.. نحن أمام وجوه سطت على الأحداث وأخرى لا يعرفها أحد، وثالثة من تجار الفرص الضائعة وفي كل الحالات نحن أمام برلمان مشوه قبل ان يبدأ.. أين برامج المرشحين وأين الحوار الدائر بين الكتل السياسية والشارع المصري، وأين الحيوية في صراع الأفكار والبرامج والرؤى؟! لم نسمع عن حزب قدم برنامجا لتطوير التعليم وهو كارثة مصر الأولى.. لم نر مرشحا قدم تصورا عن قضايا الإسكان ومستقبل الشباب.. لم يتحدث أحد عن مأساة الأمية التي ابتلعت حتى الآن 27 مليون مصري لا يقرأون ولا يكتبون لم يحدثنا أحد عن أزمة البطالة، وكيف ننقذ ملايين الشباب من هذا المرض القاتل وهذه المحنة الرهيبة، لم نسمع أحدا يحدثنا عن أطفال الشوارع وكم بلغ عددهم الحقيقي.. لم نر برنامجا لمواجهة كارثة المخدرات التي خربت عقول شبابنا، لم يطرح مرشح واحد فكرة واحدة عن العلاج المجاني وأزمة المستشفيات وملايين المصريين الذين يحملون فيروس سي.. لم يقترب أحد من أزمة الزواج والعنوسة والتحرش في الشوارع، لم نسمع عن برنامج انتخابي لترشيد الخطاب الديني وإنقاذ شباب مصر الضائع من التطرف والإرهاب والعنف وغياب الوعي وتراجع الانتماء.. كل ما يجري في الساحة الأن بين المرشحين اتهامات وبذاءات وأموال تحرك هذا وتلغي ذاك ووسط هذا كله هناك من يستغل ظروف الناس ما بين الفقر والحاجة التي تصل إلى زجاجة زيت أو كيلو سكر أو مائة جنيه يقتسمها شخصان.. ان البعض يراهن للأسف الشديد على بطلان البرلمان القادم وفي العهود الغابرة كانت دعاوى البطلان بالعشرات وكم من الأحكام القضائية ضد الانتخابات السابقة لم تنفذ تحت دعوى ان المجلس سيد قراره.. ما أكثر الدوائر التي تم تزويرها وما أكثر الصناديق التي تم استبدالها، ولكننا هذه المرة وأمام برلمان 2015 يمكن ان نجد الكثير من مفاجأت البطلان.. إذا فاز حزب النور بأصوات أكثر من اللازم يمكن الطعن في ذلك على أساس ان الدستور ينص على تجريم الأحزاب الدينية، وهنا يمكن ان يتم البطلان.. وإذا نجحت راقصة في المجلس وأصبحت رئيسة أو أحد أعضاء لجنة الثقافة والسياحة والإعلام يمكن الطعن في ذلك تحت شعار غير لائق أخلاقيا.. وإذا استدعت جهات التحقيق أحد الأعضاء تحت قانون من أين لك هذا يمكن ان يبطل ذلك الانتخابات.. هناك أساليب كثيرة معروفة ولدى الجهات المختصة خبرات كثيرة يمكن ان تجعل من بطلان المجلس القادم حقيقة وعند ذلك ينبغي ان نعيد الكرة ونجري انتخابات جديدة ويؤجل الدستور ونظل واقفين في المربع رقم واحد في قضية الديمقراطية وكل الأشياء بأيدينا. حتى الآن لم تتضح أمام المواطن المصري ثلاثية الإعلام والمال والفلول.. ان هذا المواطن كان يتمنى لو ان كتيبة رجال الأعمال تبنت مشروعا لمواجهة الفقر في مصر، واجتمع عدد من هؤلاء الذين يمولون الحملات الانتخابية من أجل السيطرة وأقاموا مشروعا مصريا وطنيا لإنقاذ الفقراء، ان هؤلاء أحق بالأموال التي يسعى رجال الأعمال لشراء الأصوات بها.. ان ملايين الإعلام وملايين الانتخابات وملايين البذخ كانت تكفي لإخراج ملايين الأسر من ظروف الفقر والحاجة.. ماذا يريد أصحاب الأموال من البرلمان القادم هل يسعون لسيطرة أكثر على سلطة القرار، هل يحلمون باستمرار السياسات الخاطئة التي منحتهم ما لا يستحقون، هل يريدون الحصانة حتى لا يقع أحدهم تحت طائلة القوانين التي تضع ضوابط للسلوكيات في المجتمع.. ان فقراء مصر أحق بالملايين التي تجري الآن في سوق الإنتخابات لأنها أموالهم ومن العدل ان تعود اليهم. تبقى أمامنا قضية غياب الشباب عن المشهد ولا ينطبق ذلك على شباب ثورة يناير بل ان الغريب ان يمتد هذا الغياب لشباب ثورة يونية وهذا يؤكد ان هناك خللا ما في علاقة السلطة بالشباب، وهذا يتطلب ردود فعل أكثر إيجابية من الدولة تجاه شبابها بحيث يبدأ ذلك بوجود مشاركة حقيقية في سلطة القرار وينتهي عند الإفراج عن السجناء الذين لم تثبت عليهم إدانات أو قضايا في عمليات إرهابية خاصة سجناء الفكر والرأي والحوار. بقيت عندي نقطة أخيرة وهي لماذا لا يعاد النظر في الامتيازات التي يحصل عليها أعضاء مجلس الشعب ولنبدأ بقضية الحصانة.. انني أتصور ان تكون الحصانة قاصرة على ما يجري تحت قبة البرلمان، اما ان يعفى عضو مجلس الشعب من كل شئ بحيث يدخل ويجئ ويذهب حيث يشاء دون ان يسأله أحد فهذه أمور يجب ان يعاد النظر فيها.. ان عضوية البرلمان شرف لكل مواطن يحصل عليها، وأن يكون صوتا صادقا للجماهير، معبرا عن إرادتها وأحلامها وقضاياها ولا أتصور ان من يسعى إلى هذه المكانة يمكن ان يكون باحثا عن مال أو نفوذ أو مكانة انه خادم للشعب بكل ما تعني الكلمة من الولاء والعطاء والترفع. لقد اقتربت ساعة الانتخابات وعلى كل مواطن ان يسأل ضميره فلا يزيف إرادته ولا يبيع صوته ويدرك ان أشباح الماضي يمكن ان تعود وان كثيرا من الأسماء التي تملأ الساحة صخبا وضجيجا كلها وجوه مارست الدجل والتحايل سنوات طويلة، ولن تتقدم مصر إلا إذا تخلصت من هذه العاهات المزمنة.. لقد أفاق المصريون يوم 25 يناير وخلع شبابهم نظاما مستبدا.. وسرعان ما أفاقوا مرة أخرى حين اكتشفوا ان جماعة متخلفة قد سرقت ثورتهم فكانت ثورة يونية، والآن هم أمام اختبار صعب لكي يحققوا أحلامهم في حياة أفضل.. لو عادت الأشباح مرة أخرى إلى برلمان مصر فعلينا ان ننتظر وقتا طويلا حتى تغرد أحلام الديمقراطية في أوطاننا مرة أخرى وأرجو الا نخسر كل شئ. لا أتصور برلمانا يعيد صور الماضي بكل أشباحه القديمة وطنا أو إخوانا أو عصابة من المنتفعين، لقد جاء الوقت لكي تنعم مصر ببرلمان يليق بها وبنا. ..ويبقى الشعر بَاريسْ .. الآنَ أجْلِسُ فى رُبُوعِكِ .. دُونَ هَمْس ٍ أوْ كلامْ قَطَعُوا لِسَانِى إنِّى فَقَدْتُ النُّطْقَ يَا بَاريسُ مِنْ زَمن ٍ بعَيدْ قَالُوا بأنَّ النَّاسَ تُولَدُ .. ثُمَّ تنْطِقُ .. ثُمَّ تَحْلُمُ مَا تُريدْ وأنَا أعِيشُ وَفِى فَمِى قَيْدٌ عَنِيدْ قَطُعوا لِسَانى .. قَطُعوه يَوْمًا عِنْدَمَا سَمِعُوه يَصْرُخُ فِى بَرَاءَتِهِ القَدِيمَةِ عِنْدَ أعتابِ الكبَارْ "إنَّى أحِبُّ" .. "وَلا أحِبُّ" صَاَحُوا جَمِيعًا .. كَيْفَ "لا" دَخَلَتْ لِقَامُوس ِ الصِّغَارْ صَلَبُوا لِسَانِى عَلَّقُوه عَلى الجدَارْ قَطَعُوه فِى وَضَح ِ النِّهارْ مِنْ يَوْمِها وَأنا أقُولُ .. ولا أقُولْ وَأرَى لِسَانِى جُثَّة خَرْسَاءَ تنظرُ فى ذهُولْ وأخافُ مِنْه فَرُبَّما يَومًا يَصِيحْ وَيثور فى وَجْهى القبيحْ فلقدْ رأيْتُ دِمَاءَهُ كالنَّهْر .. تُغرقُ وجْهَ أيَّامى .. وَيسقُط كالذبيحْ وَحَشيتُ مِن غَضبِ الكِبَارْ مَازلْتُ ألْمحُ طيفهُ الدَّامِى .. عَلى صَدْر الجَدَارْ فِى كُلِّ وَقْتٍ أمْضَغُ الكلِمَاتِ فِى جَوْفِى .. وأبَلعُهَا وتنزفُ بَيْنَ أعْمَاقِى .. وَتصْرُخُ فى شرايينى ويَحْمِلنِى الدُّوارُ .. إلى الدُّوَارْ كلمَاتُنَا .. جُثثٌ تنامُ بدَاخِلِى فأنا أقُولُ .. ولا أقُولْ وأنا أمُوتُ .. ولا أمُوتْ كلماتنَا قتلَى.. ودِماؤهَا السَّودَاءُ فى صَدْرى تَسِيلْ لا تَعْجَبى بَاريسُ مِن صَمْتِى فَصَوْتِى بَيْنَ أعْمَاقِى قتِيلْ بَاريسْ .. إنَّى اكتفيْتُ بأنْ أرَى عَيْنيكِ خلْف "السِّين ِ" كَالعُمْر الجَمِيلْ فالصُّبْحُ فى عَيْنَىَّ شئٌ مُسْتَحِيلْ والحُلمُ فى أعْناقِنَا قيدٌ ثَقيلْ كمْ كُنْتُ أحْلُمُ .. أنْ أجِىءَ إلَيْكِ مَشْدُودَ الخُطَى لكنَّ قيْدًا فِى الضُّلُوع يشُدُّنِى وأقومُ يَجْذبُنِى وأصْرُخُ يَحْتَوينِى .. ثُمَّ أسْقُط كَالحُطامْ وأرَى الكلامَ يَسِيلُ مِنْ صَدْرى .. وَينْزفُ تحْتَ أقدَامِى .. ويَلْقِيهِ الزِّحَامُ .. إلى الزِّحَامْ كلمَاتنا صَارتْ دِمَاءْ وَدِماؤُنَا صَارتْ كلامْ القيدُ يا بَاريسُ عَلَّمنِى الكَثِيرْ فَالضَّوْءُ فى أيَامِنَا شَىءٌ مُحَالْ والخُبْزُ للأبْنَاءِ عَجْزٌ .. أوْ دُمُوع .. أو خَيَالْ والحُلْمُ فِى نَومِى ضَلالْ والصَّمْتُ أفْضلُ مِنْ سرَادِيبِ السُّؤَالْ قَالُوا : لدَيْكِ يُسَافِرُ العُشَّاقُ .. فِى حُلْم ٍ طَويل ٍ لا يَمُوتْ والحُبُّ فِى أعْمَاقِنَا شبَحٌ تُغلِّفُهُ المَنَايَا .. فِى خُيوطِ العَنْكبُوتْ وإذا أتيْتُ إلَيْهِ يَجْذبنِى فأهْرَبُ .. أوُ أمُوتْ الحُبُّ فِى دَمِنا يَمُوتْ بَاريسْ .. إنَّى أحَاولُ أنْ أقُولَ لديْكِ شَيْئًا .. آهِ مِنْ صَمْتِى القَبيحْ قَطَعُوا لِسَانِى .. مَا زلْتُ أخْفِى بَعْضَهُ سِرًا .. وَيَنْزفُ بَيْنَ أوْرَاقِى أحنِطُهُ كتِذكَار لأيَّام ٍ مَضَتْ لِى فِى رُبُوعِكِ قبلَ أنْ أمْضِى رَجَاءْ سَيجىءُ ابنِى ذاتَ يَوْم ٍ علِّمِيه النُّطقَ يا بَاريسُ أنْ يحكِى .. وَيَصْرخ أنْ يَقُولَ كمَا يَشَاءْ فلقدْ تركْتُ لَهُ لِسَانِى بَيْنَ أوْرَاقِى ذَبيحْ حَتَّى تَظلَّ دِماؤُه بَعْدِى تَصِيحْ قصيدة "تأملات باريسية" سنة 1989 نقلا عن جريدة الأهرام