تهفو ملايين الأفئدة إلى بيت الله الحرام وإلى عرفات.. لقد توجه ملايين الحجيج إلى مكةالمكرمة يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا، وظل مئات الملايين الأخرى من المسلمين في بلادهم تشاهدهم وهم يطوفون بالبيت الحرام وترتفع أصواتهم بالتلبية منذ خروجهم وحتى يقضوا تفثهم وينهوا نسكهم ومع كل ارتفاع للصوت تهتز القلوب شوقاً إلى البقاع المقدسة وإلى مثوى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم. إنها فريضة العمر الركن الخامس من أركان الاسلام حج بيت الله الحرام ومع الطواف بالبيت سبعة أشواط ، والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط أخرى ثم الصعود إلى عرفات لأداء ركن الحج الأكبر ثم النزول إلى مزدلفة ومنى للمبيت والنحر والحلق ثم طواف الافاضة ويقضي الحجاج أوقاتهم ويوفون نذورهم ويتعلقون بأستار الكعبة، ويلهجون بالدعاء في عرفات ليتقبل الله منهم ويغفر لهم ولمن استغفروا لهم. ولكننا مع أداء النسك كما أمر الله وكما أخذت أمة الاسلام عن نبيها العظيم صلى الله عليه وسلم نتذكر اهم دروس تلك الرحلة المقدسة التي فرضها الله تعالى على المسلم القادر مرة واحدة في العمر. الحج قصد وهو تعبير عن شوق المسلم إلى إفراغ ما في قلبه من أشواق وحنين إلى أرض وأماكن وبيت حلّ فيها الايمان والتوحيد والاخلاص لله تعالى، فهي بقاع تقدست بتقديس الله لها، وصارت لها حرمة بتحريم الله لها، فهي بقاع ليست ككل البقاع، وبيت ليس ككل البيوت وجبال ووهاد ليست كباقي الجبال والوهاد. يقول الله تعالى : " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " (آل عمران/ 69، 79). لقد شهدت تلك البقاع المقدسة أعظم قصة يرويها التاريخ لأسرة موحدة أخلصت لله رب العالمين. الأب ابراهيم الخليل عليه السلام والابن اسماعيل عليه السلام جد العرب المستعربة، والأم هاجر المؤمنة رضي الله عنها وأرضاها. أسرة ضحت بالغالي والنفيس طاعة لله رب العالمين حتى وصلت التضحية إلى الاستجابة لأمر الله تعالى في الرؤيا الصادقة للخليل ابراهيم بذبح ابنه الوليد الذي رزقه الله به بعد طول سنين. " فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَي فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَي قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات101، 201) هذا الابتلاء العظيم " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ" (الصافات/601). صدق ابراهيم في توحيده وإخلاصه ، فكان خليل الرحمن وصدق اسماعيل في اسلامه واستسلامه، فكان نبي الله إلى العرب . وصدقت هاجر في ايمانها وتصديقها فكانت القدوة الصالحة ولذلك أمر الله ملايين البشر بإعادة رواية أهم فصول تلك القصة الحقيقية كل عام في الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ورجم الشيطان بالجمرات 3 أيام، عسى أن تمتلئ قلوب الحجاج بالتوحيد والاخلاص والاسلام والاستسلام والايمان والتصديق، فيعودوا من رحلتهم المقدسة وقد غفر الله لهم ذنوبهم وفتح لهم صفحة جديدة ليسطروا فيها أعمالاً صالحات ويبدأوا فيها رحلة جديدة مع الله تعالى. وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الحاج الذي لا يرفث ولا يفسق يعود من حجه كيوم ولدته أمه، مغفوراً له الذنب، مقبولاً له التوبة. ومع قدوم المسلمين إلى مكةالمكرمة في يوم واحد للصعود إلى عرفات يوم التاسع من ذي الحجة ثم نزولهم جميعا بعد غروب شمس ذلك اليوم العظيم مغفوراً لهم تتأكد معاني الوحدة بين المسلمين على اختلاف ألوانهم بين أحمر وأسود وأبيض وأصفر، وعلى اختلاف السنتهم التي تنطلق منها أحرّ الدعوات المرتفعة إلى عنان السماء، وعلى اختلاف جنسياتهم بعد أن تفرقت بهم الأوطان إلى أكثر من 50 دولة وجنسية. هذه الوحدة بين المسلمين التي يحرص الاسلام على اظهارها في كل شعائر الدين لتتأكد معانيها وتترسخ في نفوس كل المسلمين على مدار الأيام والشهور والسنين. تظهر تلك الوحدة في الصلاة بالمسجد الجامع في صلوات الجماعة وصلاة الجمعة والأعياد حيث تتألف الجماعات الصغيرة وينضم بعضها إلى بعض ليكون الجميع صفاً واحداً في موقف الخشوع بين يدي الله تعالى، فيتعلم المسلم والمسلمة أنه ليس وحده بل هو فرد من مجموع وأن دينه يفرض عليه النظام والطاعة حتى في العبادة وأثناء الوقوف بين يدي الله تعالى. وتتأكد تلك الوحدة أكثر في صيام شهر رمضان حيث يصوم الملايين في مشارق الأرض ومغاربها في شهر واحد، رغم اختلاف المطالع للهلال بين يوم أو أكثر، إلا أن الجميع يشتركون في أداء فريضة الصوم معا، يشعرون جميعا بألم الجوع والعطش والحرمان، فتتوحد مشاعرهم النفسية كما توحدوا من قبل صفوفاً في الصلاة، ويخرجون صدقة الفطر في توقيت واحد للتخفيف عن الفقراء ورعاية لمشاعرهم، فيتكاتفون في أعباء الحياة ولو ليوم واحد هو يوم عيد الفطر، مما يجعلهم أكثر استعداداً لأداء الفريضة الأخرى، فريضة الزكاة فيتحقق بها وحدة جديدة بين أبناء البلد الواحد والحي الواحد. أما في الحج ومناسكه فتكون وحدة المسلمين أظهر ما تكون. فقد لبى الملايين نداء ابراهيم عليه السلام. " وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ " (الحج/72) فتوافدوا إلى بقعة واحدة، في زمن واحد. " لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ...... " (الحج/ 82) حيث فرض الله الحج في أشهر معلومة وأيام معلومات لا يجوز الحج في غيرها من أيام العام، وتلك حكمة بالغة رغم الزحام الشديد والصعوبات التي يواجهها الحجاج وبقاء الأرض كما هي من الآف السنين بينما يزداد عدد الحجاج مع كل عام، إلا أن تلك الحكمة هي تجسيد وحدة الأمة في مظهر بديع لا ينساه الانسان مهما تباعدت به الأيام. مظهر الملايين في ثوب واحد ولباس واحد، متجردين من المخيط والمحيط، رؤوسهم عارية، شعثاً غبراً، يتجهون إلي قبلة واحدة، ويطوفون ببيت واحد، البيت العتيق، ويقصدون رباً واحدا، لا إله إلا هو، يستمع إليهم جميعاً، ويفهم مسألتهم جميعاً، ويلبي طلباتهم جميعاً ، يتحركون حركة واحدة في اتجاه واحد، ثم ينصرفون إلى بلدانهم عقب أداء النسك سعداء فرحين برحمة الله التي غمرتهم رغم المشقة والتعب. لو أراد أحد أن يجسد معنى الوحدة بين المسلمين لما استطاع أن يفعل ذلك إلا أن الله تعالى فرضه علينا فرضا وأوجبه علينا لنتأمله كل عام يتكرر أمام أعيننا لنعلم تلك الحقيقة أننا أمة واحدة مهما حاول أعداء المسلمين تفريقها، فقد قال الله. " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" {الأنبياء/ 29) " وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" {المؤمنون/ 25) وعلينا أن نسعى لإعادة اللحمة والوحدة بين المسلمين، وحدة المشاعر والأحاسيس، وحدة الثقافة والمعاني، وحدة التكامل الاقتصادي، وحدة المواقف السياسية، حتى نصل بها وإن طال الزمان إلى وحدة حقيقية تجسد قوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وما ذلك على الله بعزيز. نقلا عن جريدة الأخبار