الرقابة الإدارية.. جهاز الكسب غير المشروع.. مباحث الأموال العامة.. الجهاز المركزي للمحاسبات.. كلها أجهزة رقابية مهمتها حماية المال العام, وكشف قضايا الفساد, وتعقب المفسدين الذين يستغلون مواقعهم في الإثراء غير المشروع.. لكن ما حدث أن هذه الأجهزة تحولت إلي أصنام لا تري ولا تسمع ولا تتكلم. إلا عند اللزوم فقط, وطبقا لأغراض بعينها.. أي أنها تحولت إلي أجهزة سياسية تتبع السادة المسئولين ولا تراقبهم, في حين أن مهمتها الأساسية هي الحفاظ علي المال العام وكشف قضايا الفساد في مهدها, وقبل أن تزكم الأنوف كما حدث الآن. في تصوري أن هذه الأجهزة تحتاج إلي إعادة هيكلة من أجل التنسيق فيما بينهم بحيث تتكامل تلك الأجهزة مع بعضها بعضا, وتغذي بعضها البعض بالمعلومات, وتؤدي في النهاية إلي محاسبة الفاسدين دون أن تتوه تقاريرها في سراديب الأجهزة ويتم تمويتها بفعل فاعل. مباحث الأموال العامة, والرقابة الإدارية لابد لهما من آلية للتنسيق فيما بينهما, بحيث تكون هناك آلية محددة لتحويل تقاريرهما إلي النيابة العامة, أو جهاز الكسب غير المشروع دون وسيط في المنتصف يعرقل سير التحقيقات ويقضي عليها في مهدها, وبذلك نضمن عدم تدخل أي مسئول لوقف فاعلية التقارير التي تدين بعض الشخصيات حتي لا تتكرر المأساة الحالية التي نعيشها الآن بعد كشف كل قضايا الفساد, والتي كانت متراكمة طوال سنوات عديدة دون أن يتم الكشف عنها أو حتي الاقتراب منها. صحيح أن النظام سقط, وأن هناك نظاما سياسيا جديدا في الطريق سمته الأساسية الالتزام بمنهج الديمقراطية والشفافية,ولكن هذا وحده لا يكفي وإنما لابد من تعديلات تشريعية واضحة لإعادة تفعيل دور هذه الأجهزة, بما يضمن لها القيام بدورها في الرقابة والمحاسبة آليا ودون تراكم طالما تأكدت المعلومات حول إهدار المال العام أو التربح من المناصب العامة والوظائف القيادية دون وجه حق. أيضا فإن جهاز الكسب غير المشروع وبرغم أنه جهاز قضائي مستقل فإنه يحتاج إلي مزيد من الصلاحيات بما يجعله قادرا علي القيام بدوره بشكل حاسم وسريع, وأعتقد أنه من الضروري أن يتم تحويل كل تقارير الرقابة الإدارية, ومباحث الأموال العامة إليه بشكل مباشر, وأيضا من الممكن تعديل تبعية مباحث الأموال العامة له لتصبح مباحث الأموال العامة اليد الطولي للجهاز حتي لا ينتظر تقدم هذا الشخص أو ذاك ببلاغ ضد بعض المشتبه فيهم. تتبع الأموال العامة ومراقبتها يجب عدم الاستهانة بها وتركها للظروف أو حتي للثورات, والأهم هو وجود آليات واضحة ومحددة وفاعلة لمنع نهب الأموال العامة, وكذا منع المسئولين والشخصيات العامة من استغلال مواقعها في الإثراء غير المشروع. في إسرائيل قامت الدنيا ولم تقعد حينما قام بنيامين نيتانياهو في دورة رئاسته السابقة للوزارة الإسرائيلية بدهان منزله علي نفقة الموازنة العامة, وفي فرنسا حاسبوا شيراك الرئيس الفرنسي السابق علي تذاكر الطيران الخاصة بأسرته, وأنه استغل موقعه في رحلات الطيران له ولأسرته بغير حق, وفي أمريكا غير مسموح لأي رئيس أو مسئول بقبول هدية تزيد علي 150 دولارا, وإذا زادت فعليه أن يقوم بتسليم تلك الهدية إلي وزارة الخزانة الأمريكية لتكون ضمن مقتنيات الدولة الأمريكية, وهكذا في معظم دول العالم المتحضر وضعوا قواعد وأسسا تضمن عدم الانحراف في المال العام, وكذا عدم استغلال أي مسئول تنفيذي أو شعبي لموقعه في التربح والإثراء غير المشروع, وإن فعل, فالملاحقات القضائية جاهزة وسريعة وحاسمة. ليت المجلس الأعلي للقوات المسلحة يصدر تعليماته إلي مجلس الوزراء لإعداد تعديلات تشريعية عاجلة علي القوانين الحالية تضمن عدم التلاعب بالمال العام, أو الإثراء غير المشروع, وتعيد هيكلة الأجهزة الرقابية وتمدها بصلاحيات واضحة ومحددة لكي تصبح تلك الأجهزة مستقلة وغير تابعة إلا لسلطان القانون, وأعتقد أنه من الأفضل أن تكون رئاسة هذه الأجهزة لشخصيات قضائية تتمتع بالاستقلالية من بين نواب رئيس محكمة النقض بحكم عملها, وبحيث تكون غير قابلة للعزل وبالذات هيئة الرقابة الإدارية, والجهاز المركزي للمحاسبات, بحيث تتمكن تلك الأجهزة من القيام بدورها دون تدخل من أحد أو فرض وصاية عليها, كما كان يفعل مجلس الشعب في تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات التي يضعها علي الرف دون أن يحرك ساكنا, وكانت النتيجة أن تحولت تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات إلي تقارير استشارية غير ذات فاعلية. المهم التحرك الآن وبسرعة لإعادة هيكلة كل الأجهزة الرقابية وضمان استقلاليتها ووضع خريطة طريق لتقاريرها لكي يتم ملاحقة الفاسدين في كل الأوقات, وحتي لا تكون فورة تعقب الثورة وينتهي الأمر ونعود كما كنا. نقلا عن صحيفة "الاهرام" المصرية