بالأسماء، وزير الداخلية يأذن ل 21 مواطنا بالحصول على الجنسيات الأجنبية    «بحر البقر».. أكبر محطة بالعالم لمعالجة الصرف الزراعى بسيناء    رئيس الوزراء يُهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    إزالة 36 حالة تعدي على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    «مدبولي» لممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية: نهتم بتوسيع نطاق الاستثمارات بالمجالات المختلفة    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    «الإسكان»: بدأنا تنفيذ 64 برجا سكنيا و310 فيلات في «صواري» الإسكندرية    وزير التعليم العالي: توسيع التعاون الأكاديمي وتبادل الزيارات مع المؤسسات البريطانية    ارتفاع عدد المعتقلين خلال الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية إلى 1700 شخصا    جيش الاحتلال يقصف مسجد القسام في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    سفير روسي: اتهامات أمريكا لنا باستخدام أسلحة كيميائية «بغيضة»    غضب الله.. البحر الميت يبتلع عشرات المستوطنين أثناء احتفالهم على الشاطئ (فيديو)    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    ميدو يصدم قائد الأهلي ويطالب بتسويقه    التشكيل المتوقع لمباراة روما وليفركوزن بالدوري الأوروبي    موعد مباراة الزمالك والبنك الأهلي في الدوري المصري الممتاز والقناة الناقلة    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    حالة الطقس اليوم الخميس.. أجواء معتدلة على أغلب الأنحاء    تفاصيل الحالة المرورية بالقاهرة والجيزة.. «سيولة في شارع الموسكي»    تحرير 11 محضرًا تموينيًا لأصحاب المحال التجارية والمخابز المخالفة ببلطيم    العثور على جثتي أب ونجله في ظروف غامضة بقنا    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    بعد 119 ليلة عرض: رفع فيلم الحريفة من السينمات.. تعرف على إجمالي إيراداته    هل توجد لعنة الفراعنة داخل مقابر المصريين القدماء؟.. عالم أثري يفجر مفاجأة    تامر حسني يدعم بسمة بوسيل قبل طرح أغنيتها الأولى: كل النجاح ليكِ يا رب    بعد أزمة أسترازينيكا.. مجدي بدران ل«أهل مصر»: اللقاحات أنقذت العالم.. وكل دواء له مضاعفات    «الوزراء»: إصدار 202 قرار بالعلاج على نفقة الدولة في أبريل الماضي    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    أوستن وجالانت يناقشان صفقة تبادل الأسرى والرهائن وجهود المساعدات الإنسانية ورفح    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعاء سلطان تكتب: الاستمتاع بسينما موجعة
نشر في الدستور الأصلي يوم 21 - 10 - 2012

كان الخبر قاسيا.. مدرسة منتقبة تقص شعر طفلة فى ابتدائى.. لأنها لم ترتد الحجاب مثل صديقاتها.. قرأت الخبر وتخيلت نفسى أمًّا لهذه الطفلة التى قهرت مدرسة -من المفترض أنها تربى نشئا سويًّا- روحها، وكسرت بفعلتها براءتها وحلمها ونفسها.. وتأكدت أننى لو كنت أمًّا لهذه الطفلة لقتلت هذه المدرسة المتخلفة فورا.
أن تقهر طفلا وأن تخدش براءة طفلة فتلك جريمة لا تعادلها أى جريمة.. جريمة إهدار للطفولة وهدم لروح صغيرة ما زالت تتكون عندما يحاول البعض أن يشعر طفلة بأنوثتها وهى ما زالت فى سن الزهور، حيث الانطلاق والمرح والانفتاح على الحياة دون حسابات والفرصة الضخمة للخطأ وتصحيحه دون شعور بالذنب.
فى العالم كله يحتفون بالطفولة ويقدرون جمالها وبهجتها.. لكن فى عالمنا العربى والإسلامى بشكل عام، يفخر الكثيرون بالقضاء على مراحل نمو الأطفال، ويتنافسون فى قطع مراحل التكوين النفسى والجسدى والعقلى وتجاوزها.. فيصبح طفل السادسة رجلا يحمى أسرته ويحمل السلاح ويعمل لينفق على ذويه.. وتتحول طفلة فى التاسعة إلى أنثى يبدؤون فى إخفاء معالم انطلاقها ويحجبونها عن العالم ويخيفونها من جسدها ويشكلون وعيها بما يؤكد لها أن هذا الجسد سيصبح ملكا لرجل لا تعرفه سيعبث به كيفما شاء وليس عليها سوى طاعته!
واقع مؤلم يعيشه أطفالنا، فى مجتمعات تقهر بعضها بعضا بمنتهى القسوة.. تحاربهم الظروف، وبدلا من أن يحاربوا الظروف التى أوقعتهم فى أسر القهر، يقررون أن يحاربوا الحياة وكل ما يجعلها ممتعة وراقية وجميلة.
نحن للأسف نعيش فى مجتمعات تقهرنا، وبدلا من أن نحارب جميعا يدا بيد وكتفا بكتف لأجل حياة أفضل لنا جميعا، فإننا نحارب من أجل التفوق على بعضنا البعض فى القدرة على القهر والتفاخر بهزيمة الآخر، أى آخر، وهزيمة أنفسنا، حتى إن البعض قرر التمهيد للعيش فى العالم بمفرده.
مهرجان أبو ظبى السينمائى فى دورته السادسة حفِل بمجموعة من الأفلام، تدور جميعها فى مسارات متعددة من قهر الرجال ومخاوف النساء وأحلام الشباب التعيسة فى عالمنا العربى والإسلامى، أفلام تعكس واقعا مؤلما، صارت مشاهدته على الشاشة تثير الشجن والحزن، وتحملنا بعد المشاهدة قدرا مزعجا من الوجع، مصحوبا برغبة عارمة فى الخلاص من كل هذا البؤس، لكن بقدر ما تحمله هذه الأفلام من وجع، بقدر ما تحمل أيضا متعة التأمل والرغبة فى التطهر وإنهاء كل هذا العبث فى أرواحنا.
فى الدورة السادسة لمهرجان أبو ظبى.. القهر سيد الموقف فى الأفلام
1- مانموتش
من تونس التى نفخر دائما بأن الإجابة الصحيحة لديها، يأتينا فيلم المخرج نورى بوزيد «مانموتش» المشارك فى مسابقة مهرجان أبو ظبى فى دورته السادسة. عنوان يحمل قدرا لا يستهان به من التحدى والرغبة فى الحياة، تدور أحداثه حول فتاتين «زينب وعائشة»، إحداهما محجبة، والأخرى ليست كذلك، لكنهما يحملان نفس الانطلاق والروح الثورية.. خرجتا معا فى الثورة التونسية التى أسقطت بن على، يمرحان فى الشارع ويغنيان ويضحكان طوال الوقت، إلى أن يبدأ المجتمع الذى يتحول من نظام ديكتاتورى قمعى باسم السياسة وحماية الحرية، إلى مجتمع قمعى متجبر باسم الدين.
يطلب خطيب زينب منها ارتداء الحجاب، ولأنه ثرى، تقرر أمها أن تجبرها على ارتدائه وتأتى بشقيقتها كى تقنعها به.. زينب ترفض الحجاب بأمر، وتقول: أنا لا أتخيل نفسى فيه، أجدنى بشعة عندما أرتديه.
يطلب صاحب العمل من زينب أن تترك مطبخ المطعم الذى تعمل فيه، لتصبح نادلة تتعامل مع الناس، لكن شرطه الوحيد هو أن تخلع حجابها.. وتحت ضغط الحاجة لزيادة راتبها، لأنها تعيل شقيقتيها، تخلع حجابها فى مطبخ المطعم، لكنها تصاب بهستيريا لينتهى المشهد بوضعها للحجاب على رأسها مرة أخرى.
هل هو فيلم عن الحجاب؟
لا.. أبدا، إنه فيلم عن الكبت والحرية.. وتقرير الإنسان لأسلوب حياته، واختياره ما يرغبه دون إجبار.. عن مجتمع يقهر أفراده بفرض قرارات تحدد مصيرهم، والبداية هى الحجاب، ذلك القرار شديد الخصوصية.. قرار حق الإنسان فى ارتداء ما يريد ويرغب.. دون أى مؤثرات أو ضغط، لذلك كان حل المخرج التونسى نورى بوزيد لهذه المعضلة التى اختار لها بطلتين متشابهتين فى كل شىء عدا غطاء الرأس، الهروب إلى خارج حدود هذا الجنون والعبث بالخصوصية «ممثلا فى شقيقة عائشة الصغرى التى سافرت للعمل كمضيفة تاركة تونس، ثم المقاومة برفض هذا القهر والتجبر، كما فعلت زينب عندما تركت خطيبها ورفضت الحجاب، وكما فعلت عائشة عندما رفضت أن تخلع حجابها».. لتغنى الاثنتان معا أغنية التحدى.. مانموتش.
الفيلم الذى حمل كل هذه المعانى ورغم أهميته وأهمية موضوعه فى هذا التوقيت، فإن لغته السينمائية كانت فى حاجة إلى كثير من الاهتمام من المخرج، فحتى أهمية الموضوع لا تبيح له أن يخرج فيلمه بهذه التقليدية دون أى جماليات، إلا فى مشهد واحد كان كافيا للتعبير عن قهر وكبت يأكل أرواح من فيه، عندما ذهب شقيق زينب الذى اعتقله نظام بن على لسنوات وأخرجته الثورة ليقهر مجتمعا بأكمله لمجرد أنه يعتقد أنه مجتمع فاسد لن يتطهر إلا بفرض الدين على أفراده، يذهب إلى عائشة حبيبته السابقة، ومن خلف باب شقتها يلمسها ويقبلها، وتبادله هى نفس الحالة، بينما الباب يمنعهما من أن يستمتعا بمشاعرهما التى ترغب فى الانطلاق. لماذا نقهر أنفسنا بعد أن قهرتنا الحياة؟! تلك هى المشكلة.
بخلاف هذا المشهد كان فيلم المخرج نورى بوزيد سيكون مقالا مهما جدا يصلح للقراءة فى صحيفة.
2- المغضوب عليهم
هل نحن شعوب مغضوب عليها؟! هل ضللنا طريقنا إلى الحياة؟!
فيلم المخرج المغربى محسن البصرى المشارك فى مسابقة آفاق يجيب لنا عن هذا السؤال.
قبل أن أتحدث عن الفيلم الذى يدور حول ثلاثة من الجهاديين الذين يعتقدون أنهم يحملون رسالة مقدسة لتطهير العالم من الفساد بقتل خلق الله، كان حديث مخرج الفيلم مفعما بالتفهم والرغبة فى التوغل فى عقول ونفوس هؤلاء القتلة.. كانت كلماته التى تقدم لفيلمه حنونًا حتى على قتلة!
حكى المخرج المغربى الذى يقدم أول أفلامه، أنه قرأ ذات يوم عن أحد الجهاديين «أطلقت عليه وسائل الإعلام لقب إرهابى»، قد فجر نفسه فى مقبرة.. يواصل: الجميع أكد أنه إرهابى، دون محاولة لفهم معنى أن يفجر إرهابى نفسه فى مقبرة، هل يقوم أى شخص عاقل بعمل جهادى ضد موتى؟!
من هنا قرأ المخرج محسن بصرى الحادثة بشكل مختلف.. قد يكون الرجل إرهابيا فعلا، وكان عازما على تفجير نفسه فى مقهى، لكنه تراجع عندما شاهد طفلة تبتسم له أو أمًّا تهنّن طفلها أو رجلا يلهو مع طفله، فتراجع وقرر أن يفجر نفسه.. إنه إنسان رفض أن يقتل آخرين، فقتل نفسه، لأنه شعر ببشاعته.
من هذا المنطق بدأ المخرج محسن بصرى فى كتابة فيلمه عن مجموعة من الجهاديين تختطف فرقة مسرحية لقتلها.
فيلم يحوى كمًّا هائلا من الإزعاج لذوى الأحكام المطلقة المعتقدين أنهم يملكون الحقيقة دون غيرهم.. يدين الجهاديين ويحنو عليهم ويحاول أن يجد مبررا لعنفهم، ويدين ضحاياهم، ويبحث معهم عن سبيل للتواصل مع من يقررون قتلهم.
فى أثناء وقوع الضحايا كرهائن تحت أسر من سيقتلونهم، يدور خلال الفيلم جدال ومناقشات تكشف أن لا سبيل أمامنا سوى أن نتحاور لنعرف أنفسنا ونعرف الآخر، فالقتلة يحاولون فهم منطق هؤلاء الشباب فى التحرر من قيود الدين، مستمتعين بحياتهم دون أن يصبحوا كفارا، والرهائن يحاولون فهم معنى متعة أن يهب شخصه نفسه للموت بقتل الآخرين، بناء على أمر من شخص يسمونه أميرا.
النتيجة أن القاتل سيفهم أن القتل ليس ممتعا، وأن الحياة رائعة، وأن مشروع القتيل، سيفهم أن هؤلاء الجهاديين صادقون فى محاولة إصلاح الحياة، لكنهم ضلوا الطريق باستخدامهم العنف، والمحصلة النهائية هى أنه لا انتصار للحياة بالقتل، ولكن بتفهم الآخر ومناقشته.. فلم يقتل الجهاديون سوى أنفسهم، ونجا الضحايا فى نهاية بديعة لفيلم مهم.
«المغضوب عليهم» فيلم يطرح التساؤلات ويحمل دعوة صادقة للشك فى كل أحكامنا المطلقة حتى على القتلة.
فيلم جرىء قد يزعج بعضا ممن قرروا أن الحقائق لا تتغير أبدا، وأنهم لن يفكروا مطلقا فى تغيير ثوابتهم حتى لو ثبت خطؤها، لكنه مثير ومهم لأى إنسان يعتقد أن رأيه خطأ يحتمل الصواب ورأى غيره صواب يحتمل الخطأ، فلنراجع أنفسنا ولنحنو على بعضنا البعض.. ذلك هو السبيل الوحيد للعيش فى هذا العالم.
فيلم «المغضوب عليهم» يعد تجربة مهمة ليس بسبب موضوعه فحسب، ولكن لأن مخرجه وجميع العاملين فيه قدموا فيلمهم دون ميزانية تذكر.. الممثلون لم يحصلوا على أى أجر، لكنهم مؤمنون بفيلمهم وفخورون بمجرد المشاركة فيه، رغم أنهم محترفون وقدموا تجارب سابقة، لكنهم سلموا أنفسهم لمخرج يفتتح مشواره السينمائى بأسئلة مزعجة.
ملحوظة: والدة المخرج محسن بصرى التى قدمت له مالها القليل لإنتاج الفيلم.. هى امرأة مغربية مدهشة، اشترطت عليه لتمويل الفيلم أن تمثل فيه، فظهرت فى مشهد البداية، وهى تدعو لابنتها أن يوفقها الله فى العرض المسرحى قبل أن يختطفها الإرهابيون.. هذا الشرط الذى وافق عليه المخرج، ابنها، كان سببه أنها حجت إلى بيت الله 23 مرة، وظهورها فى الفيلم سيتيح لها أن تضع أصابعها العشرة فى عين أى شخص يقول إن ابنها صنع فيلما ضد الإسلام.. ما أجمل هذه الأم وما أروع هذا العالم بوجودها.
الفيلم سيعرض فى المسابقة العربية لمهرجان القاهرة السينمائى فى دورته القادمة.. هناك فرصة جيدة لأن يشاهده المصريون فى هذا التوقيت من عمر وطن لا يعرف أفراده التواصل حتى مع أنفسهم.
3- حجر الصبر
امرأة لم تجرب الحب من قبل.. لم يقبِّلها زوجها أبدا ولم يلمسها بحنان، ولم ينظر فى عينيها بحب.. هى بالنسبة إليه مجرد مصدر لتفريغ متعته.. تزوجته وهى فى الثانية عشرة من عمرها، وهو فى الأربعينيات من عمره، هو مقاتل أفغانى يعتقد أنه يجاهد لنصرة دين لا يعرف أجمل ما فيه، وهو المعاملة بالحسنى.
«حجر الصبر» المشارك فى مسابقة آفاق للعمل الأول والثانى بمهرجان أبو ظبى، فيلم قاس ومؤلم يأتينا من أفغانستان، للمخرج الأفغانى المقيم بباريس عتيق رحيمى، وهذا الفيلم هو فيلمه الثانى.
بطلة الفيلم هى الإيرانية جولشفتى فراهانى، وهى أيضا مقيمة فى باريس، بعد قصة مثيرة لم تتمكن بعدها من العودة إلى إيران، حيث نشرت صورا لها وهى عارية الصدر، مما جعل مجرد محاولتها العودة إلى هناك هو نوعا من الانتحار، فالإعدام أو السجن، هما مصيرها فى موطنها.
يبدأ الفيلم بمشهد لحجرة كئيبة تخيم الكآبة على كل ركن فيها، ثم نشاهد رجلا طريح الفراش وامرأة شابة فشل الحزن فى إخفاء معالم جمالها.. الزوجة الشابة «جولشفتى فراهانى» تعطى لزوجها طريح الفراش دواءه بشكل روتينى.. هى تعتنى به لمجرد الشفقة، لا لأنها تحبه، وذلك بعد إصابته فى إحدى المعارك بطلق نارى أدى إلى تحوله إلى مجرد جسد يتنفس.
ورغم أنها تخدمه وتمرِّضه فقط لأنه الوحيد الذى تستطيع البوح معه بصدق دون أن يلومها.. وجوده المرهق لها فى خدمته، هو سبيلها الوحيد للفضفضة.. هى تحافظ عليه لتكمل قصتها، إلا أن هذا لا يمنعها من تعنيفه بقسوة لها ما يبررها من سنين، أهدر فيها هذا المريض أنوثتها وإنسانيتها ومشاعرها وكرامتها بجعلها مجرد وعاء لشهوته، فهى تخاطبه بحدة وتقول له: لماذا لا تموت؟!
الحرب والقتل والدماء حولت هذا الزوج إلى شخص بلا روح حتى قبل إصابته بالغيبوبة، فأحال حياته وحياتها إلى جحيم.
قررت هى أن تنتقم لنفسها من سنوات طفولتها التى قضى هذا الرجل عليها.. قررت أن تحيل ما تبقى من أنفاس لديه إلى عذاب يجعله يتمنى فقط أن يموت.. ظلت تحكى له عن معاناتها معه ومع أسرتها منذ أن كانت طفلة، فوالدها زوّجها له بعد خسارته فى رهان، وكانت هى الثمن.. رجل مقاتل يكبرها سنا، يوم عرسها لم يحضر، وحضر خنجره، فالرجل يعيش لقضية كبرى ولا يهتم بهذه التفاصيل.. تخبره أن الفتاتين اللتين يعتقد أنهما من صلبه، هما نتيجة لعلاقة غير شرعية، وهو عقيم لا ينجب.
ورغم أنه مجرد جثة هامدة لا علاقة له بالحياة سوى أنه ما زال يتنفس، فإن هذا الزوج، القاهر والمقهور، يحاول قتلها، فتبادره هى بطعنة بخنجره، لينتهى الفيلم.
فيلم «حجر الصبر» رغم كآبته المفرطة التى تصيب مشاهده بالانزعاج من فرط قسوة الحياة وعشق بعض البشر للدم، فإنه فيلم عذب.. جارح وفاضح لمجتمع يدعى أنه يقاتل للحفاظ على القيم، بينما هو يقهر ويقتل أرواح البشر ويجعلهم مجرد كتل من لحم ودم.. تتنفس وتشبع شهوات القتل والجنس والأكل والشرب.. خالة خالتها التى فتحت بيتها للمتعة الحرام، هى الوجه الآخر لامرأة أخرى مقهورة، ولم تتمكن من الخلاص من قهرها إلا بالتمرد على كل القيم، حتى وصلت إلى ممارسة الدعارة والكسب منها.. القهر ينتج كل القيم المقيتة، حتى المقاتلون الذين اقتحموا منزل الزوجة «التى لم يذكر الفيلم اسمها حتى النهاية، مؤكدا أنها مجرد امرأة مقهورة واسمها لن يفيد أحدا» كانوا يرغبون فى قهرها بمحاولة اغتصابها، ولم ينقذها سوى تأكيدها أنها عاهرة.. هؤلاء المقاتلون الشرفاء لا يغتصبون العاهرات، فالعاهرة لا تغتصب وإنما تمنح نفسها بمنتهى الرضا مقابل المال، وهذا الأمر لا يشبع رغبة هؤلاء الرجال فى القهر، لذلك يتراجعون، فالقهر أصبح غاية يستمتعون بها، وليس مجرد وسيلة لإشباع الشهوة.
فيلم «حجر الصبر» كان أكبر من مجرد زوج طريح الفراش أهان إنسانيته وأهان إنسانية من عرفهم، وزوجة مقهورة ومهانة.. إنه فيلم عن استحالة أن تكون هناك حياة سوية تحت القصف، واستحالة أن يكون هناك بشر أسوياء وهم مقهورون.
4- الخروج للنهار
هالة لطفى.. صديقتى المخرجة الشابة التى قدمت فى هذا الفيلم «الخروج للنهار» المشارك فى مسابقة آفاق تجربتها الروائية الطويلة الأولى بعد سلسلة من الأعمال الوثائقية والروائية القصيرة، لم تعد، بالنسبة إلىّ، مجرد صديقة أحبها وأعتز بصداقتها، ولكنها أصبحت الآن مصدر بهجتى وفخرى وأملى فى أن القادم أجمل.
هل ثمة مبالغة فى ما أقول؟!
إطلاقا.. هالة لطفى صنعت فيلما لن تنساه ذاكرة السينما المصرية والعالمية.. قدمت فيلما يعيش فيه المشاهد متخليا عن سلبية التلقى ومجرد المشاهدة.. كل لقطة فى الفيلم تنضح بالصدق.. كل مشهد فيه يترك أثرا فى الروح ويخترق الوجدان.
أب مصاب بالشلل وأم ممرضة أصبحت من فرط معاناتها غير مبالية بأى شىء.. باردة وجامدة وحتى نبرات صوتها وكلامها مع ابنتها ملولة ومملة.. وابنة وحيدة.. لا تفعل شيئا فى حياتها سوى العناية وتمريض والدها المشلول.
يا الله! على روعة ودهشة التفاصيل التى ينقلها الفيلم فى مشاهد تمريض الفتاة لوالدها القعيد.. ما أبدعها وأعذبها.. بداية من استيقاظ الفتاة بسيطة الملامح، ثم توجهها إلى حجرة والدها وتغيير البامبرز له، ثم غسل ثيابه المتسخة بفضلاته وبعدها تحضير العشاء له ثم إطعامه.
كيف تتحول مثل هذه المعاناة لهذه الأسرة الفقيرة ومعيلها المصاب بالشلل إلى متعة وسحر وبهجة؟! إنها البساطة التى حافظت مخرجة الفيلم عليها منذ بداية الأحداث وحتى نهاية «الخروج للنهار»، والصدق الذى حفلت به التفاصيل.. لا مكياج يزين الوجوه، ولا نفاق يربط الشخصيات ببعضها.. علاقة الأم بابنتها مملة، وعلاقة البنت بأمها تحمل كثيرا من اللوم وعلاقة الاثنتين بالأب مليئة بالشفقة والحرص، وبعض التململ والضيق.
«الخروج للنهار»، كان يحمل فى البداية اسم «جلطة» لكن الاسم تغير بعد الثورة إلى «الخروج للنهار» تيمنا بثورة ستكنس كل هذا العفن والبؤس.. تمت عملية صناعة الفيلم فى أربع سنوات، لم تتنازل خلالها المخرجة عن لقطة واحدة مقابل تنفيذه كما تمنت.. كل العاملين فى الفيلم من الشباب الذين يقدمون تجربتهم الروائية الطويلة الأولى.. من المخرجة مرورا بمهندسة الديكور ومهندس الصوت وليس انتهاء بالممثلين والمونتيرة.. هذه تجربة تستحق أن نحب السينما لأجل صدقها، وصدق العاملين فيها، بعيدا عن صخب النجوم وقيود السوق، وبعيدا عن المحفوظات السينمائية التى مل منها المشاهدون قبل صناع السينما.
الفيلم الملىء بالبؤس والقسوة، الذى خرج بدون أى موسيقى تصويرية على الإطلاق مكتفيا بعين مخرجة تقدس السينما وتعى ما ترغب فى إيصاله من خلال فيلمها دون محسنات، احتوى على أكثر مشاهد السينما رومانسية ورقة حتى هذه اللحظة.. الزوجة تستغل خروج ابنتها.. تحمل كوبا من الشاى.. تتجه إلى غرفة الأب.. تسقيه الشاى وتقول له: تعال نسمع أم كلثوم زى زمان.. تفتح الراديو ويصدح صوت أم كلثوم، بينما الزوج سارح على فراشه والزوجة شاردة بمفردها.. حتى لمسات الأم وقسوتها فى التعامل مع ابنتها وهى تبدل الملابس لأبيها، كانت من قبيل غيرة زوجة على زوجها، الذى تحبه، حتى من ابنتها.. هذا رجلها هى فقط، ولن تسمح لأحد أن يشاهده عاريا وضعيفا، حتى وإن كانت ابنته، لذلك فهى تقول لابنتها فى أثناء تبديلهما لملابسه بعد إصابته بقرحة الفراش: سيبى إيده لتلبسه هى بقية ملابسه!
يسقط الأب من على فراشه ويصاب بجلطة جديدة وغيبوبة كاملة ويتم نقله إلى المستشفى.. ينتهى الفيلم بالأم فى حجرة الأب بالمنزل وهى تحاول تنجيد مرتبة الفراش، كى ينعم زوجها بنوم مريح على فراشه عقب عودته من المستشفى.. فى هذه الأثناء تسأل البنت أمها: هو إحنا حاندفن بابا فين؟ انتهى الفيلم مع هذه الجملة المخيفة من فرط واقعيتها، والمدهشة بقدرة الفتاة على تقبل موت الأب، ثم هذه القسوة التى واجهت بها أمها التى ما زالت تتشبث بحلم عودة رجلها إلى البيت حتى لو كان عاجزا.
«الخروج للنهار» فيلم جديد يفتح للسينما المصرية طريقا للصدارة الفنية بلا ضجيج ولا ضخامة إنتاج ولا نجوم.. الفيلم هو النجم وكل من عملوا فيه كانوا مجرد خدام يرغبون فى إتقان ما قدموا.. وخدام الفيلم كانوا أسياده وأسياد السينما.
غدا نستكمل الحديث عن الدورة السادسة من مهرجان أبو ظبى وتحليل لجوائز المهرجان التى حصل خلالها فيلم «الخروج للنهار» على جائزتى النقاد العالميين لأحسن فيلم «فيبرسى» وجائزة أحسن إخراج لهالة لطفى فى مسابقة «آفاق»، بينما حصل المخرج التونسى نورى بوزيد على جائزة أحسن مخرج عن فيلم «مانموتش»، وحصلت بطلة الفيلم الأفغانى الإيرانية «جولشفتى فراهانى» على جائزة أحسن ممثلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.