بمجرد عرض فيلم «حب» توقعت حصوله على سعفة «كان» وصباح أول من أمس أيضا قلت إنه الأقرب إلى السعفة، وعندما أعلن المخرج الإيطالى نانى موروتى، أمس، الجوائز منح المخرج النمساوى ميشيل هانكى وفيلمه الفرنسى الألمانى النمساوى المشترك «حب» جائزة السعفة، وفى لمحة مؤثرة على مسرح قاعة «لوميير» الكبرى مساء الأحد الماضى شاهدنا كيف أنه فى عدد محدود من الأفلام لا تستطيع أن تُقدم الإحساس الفنى بعيدا عن أداء الممثلين، وأن إبداع المخرج مهما شاهدنا له من لمحات خاصة ومؤثرة لا يمكن أن ينفصل عن الممثلين، ولهذا أثنى رئيس لجنة التحكيم على بطلى الفيلم جان لوى ترانيتان وإيمانويل ريفا، كما أن المخرج أيضا شاركه فى الثناء على بطليه. ويستحق الفيلم أن أعيد إليكم ما كتبته فى هذه المساحة عند عرضه فى بدايات المهرجان. عندما يعرض فيلم لمخرج حصد من قبل سعفة «كان» يزداد حجم التوقعات، بل أحيانا يتجاوز خيال الناس إمكانيات المخرج ويلعب الترقب دائما دورا سلبيا لأننا فى العادة ننتظر ما هو أبعد وأعمق وأروع، وبالصدفة كان موعدنا مع اثنين من حملة سعفة «كان» المخرج النمساوى ميشيل هانكى وفيلمه «حب» حصل المخرج على سعفة المهرجان بفيلمه «الشريط الأبيض» 2009 وبعدها بأقل من 12 ساعة المخرج الإيرانى عباس كيروستامى وفيلمه «مثل من يقع فى الحب» حصل على السعفة عن فيلمه «طعم الكرز» 1997.
والفيلمان يجمعهما الحب، إلا أن الحقيقة بقدر ما كان ميشيل هانكى قادرا على أن يتوازى مع التوقعات بقدر ما خابت ظنونا هذه المرة مع كيروستامى.
الفيلم الإيرانى يستحق فى كل الأحوال أن نتناوله بشىء من التفاصيل فى مقال قادم نقترب أكثر من فكر كيروستامى، عندما يغادر الحدود ويقدم فيلما خارج الشروط الشكلية للسينما الإيرانية مثلما شاهدنا قبل عامين فيلمه «نسخة مصدقة»، لنكتشف أن الاختلاف فقط هو أن النساء لا يرتدين الحجاب، إلا أن الفيلم به كل ملامح كيروستامى، ولكن دعونا الآن نستكمل نشوتنا بفيلم «حب».
نحن أمام زوجين تجاوزا الثمانين يعيشان فى حالة امتزاج يجمعهما حب الموسيقى فلقد كانا أستاذان لتلك المادة قبل الإحالة إلى المعاش.
الفيلم يبدأ برجال الشرطة يقتحمون منزلا ويضعون كمامات على وجوههم دلالة على مضى بضعة أيام على وقوع الجريمة، ونكتشف جثة امرأة ملقاة على السرير وحولها الزهور.
اللقطة الثانية فى المسرح حيث كان الزوجان الحبيبان يحضران حفلا موسيقيا ونعود بعد ذلك إلى الموقع الرئيسى للأحداث، والكاميرا لا تغادر البيت نظل داخل هذا المكان الضيق والكلاسيكى فى ملامحه نتابع تلك العلاقة بين الحبيبين. السيناريو كتبه المخرج ليس على الطريقة البوليسية من أجل التشويق وزرع تساؤل عن من الجانى، ولكن تلك الجريمة برهافة إحساس المخرج وقدرته على بناء السيناريو لم نتذكرها إلا مع ارتكاب البطل لحادثة القتل لتستحوذ علينا الحكاية العاطفية بكل تفاصيلها وتداعياتها!
الإحساس العاطفى بين الزوجين العجوزين لم يتوقف. يتناولان الإفطار ونلحظ أن المرأة غابت لحظات عن الوعى وعندما تسترده تكشف أنها عادت إلى المنزل بكرسى متحرك ويصبح على الزوج أن يتولى رعايتها. تتدهور الحالة وتفقد قدرتها على الحركة وتفقد أيضا ذاكرتها ويقدم المخرج مشهدا عميق الدلالة للزوج وهو يخشى من فقدان الذاكرة فيبدأ فى تدوين حياته وحياتها على الورق وتزداد الزوجة تعثرا فى النطق، ويلمح الزوج رغبتها فى الموت فيضع الوسادة على رأسها حتى ينهى حياتها.
الفيلم لا ينتهى هنا، ولكن نعيش الحلم مع الزوج عندما يرى فى منامه زوجته فى المطبخ وهما فى طريقهما إلى مغادرة المنزل، وكأن المخرج يريد أن يحقق للمتفرج نهاية سعيدة لم تحدث على الشريط السينمائى.
الكاميرا لم تغادر المنزل إلا فى مشاهد نادرة واحدة فى مسرح وأخرى أمام باب الشقة، ولكن يظل المنزل هو البطل المسيطر على الإحساس العام. الكاميرا غادرت فقط المكان شكليا عندما انتقلت على الحائط لنرى اللوحات التشكيلية وكأنها تفتح أمام أعيننا مجالات للرؤية، ولكن يظل المنزل على ضيقه الموضوعى قادرا على أن يمنحنا مساحات رحبة من التأمل.
المكان هو بالتأكيد أحد عوامل تفرد السينما، بل إنها تلعب دائما بهذا السلاح الذى تمنحه لها الكاميرا، ورغم ذلك نشهد فى العالم تجارب نادرة لأفلام تقيدت بالمكان وانطلقت لما هو أبعد مثل فيلم للمخرج البريطانى سيدنى لوميت «اثنا عشر رجلا غاضبا» الحائز على الأوسكار قبل نحو 60 عاما جرت أغلب أحداثه فى غرفة المحلفين فى أثناء نظر القضية أمام المحكمة كما أن المخرج صلاح أبو سيف قدم فيلم «بين السما والأرض» وأحداثه داخل المصعد.. الضرورة الدرامية هى التى تحدد الرؤية فى النهاية، ولكن على المخرج أن ينطلق بخيال الجمهور وأن يزيد من جرعات التأمل ليشعر المتفرج أنه بقدر ما أحكم القيد على المكان بقدر ما شعر برحابة الفكر الذى يحمله العمل الفنى.
العمل الفنى الرائع من حقه أن يتطلع إلى الجائزة. الفيلم بدأ بجثة وانتهى بجريمة ولكن ما تبقى فى وجداننا هو حالة حب أفضت إلى قتل ثم انتحار.
لمن السعفة الذهبية؟ حتى كتابة هذه السطور أقول لكم إنها لفيلم ميشيل هانكى «حب» وحتى إشعار آخر أقصد حتى فيلم رائع آخر انتهت كلمات المقال ولم يعرض بعد هذا الفيلم من يستحق السعفة حتى أعلنت أول من أمس نتائج المهرجان!!
الحب ظل بين الزوجين حتى الرحيل، فهو أراحها من آلامها ولحق بهما وقدم المخرج مشهدا شديد الدلالة على ذلك عندما وجد حمامة تحط على شباك المنزل وتدخل إلى البيت، ويحاول البطل تقييدها حتى لا تغادر المنزل، فى تلك اللحظة كان كل شىء قد انتهى دراميا وترك المخرج الباب مشرعا للناس لكى تُكمل هى الزمن.
باقى الجوائز جاءت فى التمثيل لبطلتى الفيلم الرومانى «خلف التلال» كوسمينا ستارتون وكريستينا فلوتر أحسن ممثل ل«مادس ميكسلين» بطل الفيلم الدنماركى «الصيد» إخراج توماس فينتر برج، والجائزة الكبرى للفيلم الإيطالى «واقعى» إخراج ماتيو جارونى وتحليل الجوائز يستحق أن نلتقى فى مقال قادم.