يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) صدق الله العظيم – غافر 60 . هذه الآية الكريمة تتضمن أحد الأوامر التى أمر الله بها عباده ، على نفس شاكلة: إستغفروا الله ، إحمدوا الله، سبحوا الله ، إستعيذوا بالله ، ، وهنا الأمر هو: أدعوا الله ، فما هو الدعاء ؟ روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدعاء هو العبادة ) ، وقال: ( إن عبادتى دعائى ) ، وعن هذين الحديثين الشريفين قال بعض المفسرين إن دعاء المرء هو عبادته ، وبعضهم قال: إن الدعاء هو ترك الذنوب والمعاصى ، إذن فدعاء الله تبارك وتعالى هو أن يعبده المرء لا يشرك فى دعائه شيئا أو خلقا من خلقه ، ويسأله أن يحقق له ما يريد. وهناك بعض الملاحظات على الآية الكريمة: أولا: أن الله تبارك وتعالى وعد بالاستجابة للدعاء بمجرد حدوثه ، وذلك دون قيد أو شرط ، وهذا يؤكد أن الدعاء ليس أن يقول الإنسان بعض الجمل التى يسبقها ب : اللهم أو يا الله أو يا رب ؛ فيستجيب الله لطلبه ؛ وإنما الدعاء فى حقيقته هو عبادة الله وحده ؛ كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ فإذا صدقت عبادة الإنسان لربه الذى وعده ؛ فإن الاستجابة حتمية الحدوث ، وهى بأن يغفر الله له ويرحمه ويتجاوز عن سيئاته ، حتى ولو لم يدع الله بهذه النعم لفظاً. ثانيا: روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء، كان الله تعالى إذا بعث النبي قال: ادعني استجب لك ، وقال لهذه الأمة: ( ادعوني استجب لكم ) ، وكان الله إذا بعث النبي قال: ما جعل عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) – الحج 78 ، وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) ، وهذا الحديث الشريف يؤكد أن الدعاء هو العبادة ، وإلا فلماذا ميز الله تبارك وتعالى هذه الأمة على غيرها من الأمم ؟ اللهم إلا بحسن العبادة والعمل الصالح ، فالأقوال لا تميز أمة . ثالثا: بعد الوعد الإلهى بالاستجابة ؛ يأتى الوعيد الرهيب لمن يستكبرون عن عبادة الله تبارك وتعالى ، أى يستكبرون عن الدعاء له ، بأنهم سيدخلون نار جهنم صاغرين محقرين ، جزاء ما استكبروا فى الدنيا عن عبادة الله ، وهذا يؤكد أيضا على أن كنه الدعاء هو العبادة ، قال الله تعالى لهم: ادعونى ؛ أى اعبدونى ، فاستكبروا ولم يعبدوه فاستحقوا العذاب والعقاب . رابعا: اتخذ الدعاء لله فى أيامنا هذه أشكالا غريبة ؛ لم تكن موجودة فى مجتمعات المسلمين من قبل ، هذه الأشكال باعدت مفهوم الدعاء فى أذهان الناس عن العبادة ، وجعلت الدعاء مجرد كلمات تقال فى أعقاب الصلاة أو فى المناسبات الدينية فى رمضان أو غيره ، وحبذا لو اقترن الدعاء بتساقط الدموع من عينى الإمام حين يتهدج صوته فيبكى المصلون وراءه، على الأخص حين يأتى ذكر جهنم والنار والعذاب والموت، وهذه الأشكال الجديدة فى الدعاء اتخذها محترفوها طريقة للارتزاق وجنى الأرباح الطائلة فى رمضان من وراء تجارة الدعاء، إذ إن من لم يحضر تلك الصلاة التى ختمت بالدعاء الباكى؛ يستطيع أن يشترى الشريط أو السي دي المعلن عنه فى وسائل الإعلام، فإن اشتريته فبكاؤك مضمون، ودموعك ستتساقط كالمطر حين يتهدج صوت الإمام الداعي فى الإعلان والناس تؤمن على دعائه وكلماته، ويا سلام لو عملت الدعاء رنة على موبايلك ! ما هذا ؟ كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من التسطيح لمفهوم الدعاء ؟ أو ليس الدعاء هو العبادة ؟ لماذا أفرغناه من مفهومه الصحيح ، وجردناه من الهدف منه ؟ هل طُلب منا أن نصرخ ونبكى وننغم كلماتنا حين نتوجه إلى الله بدعواتنا ؟ ومن الغريب؛ أن نلاحظ فى السنوات الأخيرة أن محترفى الدعاء بالكلمات قد توجهوا فى إلقائهم كلمات ما يسمونه أدعية ؛ يلفظونها بتنغيم وتلحين وسجع يجعلها تشبه قراءة القرآن ، وأستغفر الله .. لقد ذكرنى إلقاء أحدهم وهو يلحن كلمات أدعيته الرمضانية إماما للمصلين؛ بما قال القرآن فى بعض أهل الكتاب: ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ) – آل عمران 78 . ولعلنا كثيراً ما نتساءل ؛ لماذا لا يستجيب الله لدعائنا ؟ مثلا .. لطالما وكثرما دعونا على اليهود والكافرين: ( اللهم أهلِك اليهود والكافرين ، أعداءك أعداء الدين ) ، ( اللهم فرق شملهم .. اللهم أهلك جمعهم ) وجموع المصلين تؤمن على الدعاء فى صوت واحد، وينفضّ الجمع الغفير، ويذهب كل إلى حاله، ويُنسى الدعاء والتأمين ! والمتأمل لما وصلت إليه أحوال المسلمين ؛ يصاب بالأسى وخيبة الأمل، ولا عجب .. فمفاهيم العبادات شُوهت ، وأصبح الدعاء لله مجرد كلمات تقال، ودموع تتساقط، وأصوات بالتأمين تتهدج، وبعدها لا عمل ، ونسى المسلمون أن الله تبارك وتعالى لا يستجيب لدعاء - أى لعبادة - العباد إلا إذا أخلصوا عبادتهم له، وعملوا بصدق وتفان فى سبيل تحقيق ما يسألون الله تحقيقه ، ويصدق حينها مفهومهم لدعائهم. إننا يجب أن نعدل مفهوم الدعاء فى نفوسنا، ويجب أن نتذكر دائما أن الله تبارك وتعالى هو سميع الدعاء، حتى إن لم يُنطق بكلماته، فليس من الضروري أن أتفوه بكلمات الدعاء كي يسمعها الله تعالى، فهو (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) - غافر 19 ، صدق الله العظيم، واسلمي يا مصر