لست أدري كيف اجتاحتني كل هذه المرارة والألم.. وكيف سُحقت داخل رحاية الرهبة والخوف من المجهول المعلوم... كعادتي الصباحية أول ما أفتح عيناي أزيح ستائر نافذة غرفتي ليدخل النور فوراً ويملأها دون أن يمر بأي حاجز.. فأنا صيفاً أو شتاءاً لا أغلق سوى زجاج النافذه ويليه الستارة، فأنا.... لا أحب الظلام.. كتيراً ما أظل مستيقظة وحيدة، انتظاراً لحلول بصيص من النهار.. ساعتها فقط أتمكن من النوم. ولكن... ماذا سأفعل في الليل الذي لا رجعة منه.. الليل الذي لن أتمكن من انتظار نهاره ولا إزاحة ستائره؟ نحن نعيش ونعيش.. نستمتع ونلهو.. نلعب ونخرج.. نشتري ونبيع.. نفرح ونحزن.. نصادق ونخاصم.. نحب ونعادي.. نفور ونهدأ.. نعمل ونصاب بالضمور في مضمار حتمية العمل.. نتذكر كل شئ وننسى أهم الأشياء.. الله.. الموت.. الحساب. هل أنا وأنت قادران على المواجهة؟.. هذا هو سؤالي الثاني.. الذي قد يصعُب علي كلينا إجابته.. ولأنني أرى في عينيك كلاماً يشكك في " ظُرفي" الذي اعتدت عليه كلما خاطُبتك.. ولأنني أرى أيضاً سؤالاً عن ماهية وكينونة الدافع الذي ألَمَ بي لأندفع إلى هذا المنحدر الحزين والغامض.. فاسمح لي أن أعرض عليك أسبابي.. أولاً: أنا من السهل اقتيادي وسحبي لتيارات الحزن والتي يتبعها الاكتئاب العنيف، ويااال مرارته، عفاك الله من تلك المرارة.. ثانياً: من السهل أيضاً انسجامي مع أي وكل شئ "بيضحَك وبيضَحَك ف الدنيا دي".. طيب ماذا حدث؟ كعادتي الصباحية أيضاً أجمع الجرائد من أمام باب شقتي وأضعها أمامي على الطاولة، ولأضيف بعض البهجة أضع جانبي كوب الشاى بالحليب وبعض المخبوزات المحلاة "عشان أحللي طعم اليوم من أوله".. ولأنني أتجول يومياً داخل كل "جورنال" باحثة عن أقلام بعينها لأستمتع بما كتبَت، فقد فتحت الصفحة التي يقبع بداخلها باب "السكوت ممنوع" الذي يحرره الأستاذ حاتم فودة، فهذا الباب يُعرفني بما يفكر فيه القراء هذه الأيام، وجعلتني كثرة القراءة داخل هذا الباب أحفظ بعض الأسماء والتي كان منها اسم الدكتورة نهلة أبو علفة.. وإذا بي أقرأ جملة المحرر التي يقول فيها "الرأي الأخير لها والذي أملته على زوجها قبل وفاتها بأيام".. أي أنها حصلت على لقب "المرحومه نهلة".. يا إلهي أي الصدمات هذه على مطلع الصباح.. إنها تكتب في هذا الباب كما أكتب أنا.. يدنو اسمها تحت رأيها كما يحدث معي تماماً.. ولكن اليوم هي الغائبة وأنا الحاضرة.. ولإنه تربطني معرفة جميلة بالأستاذ حاتم فقد اتصلت به آملة في أن يخرجني من صدمتي ولكن لا فائدة.. سألت نفسي هل سيأتي اليوم الذي يُقرأ فيه اسمي يسبقه لقب المرحومة؟ وكان هذا سؤالي الثالث الذي بهتني.. أجل.. بالطبع سيأتي، أما الوقت.. فلا يعلمه إلا الله.. كنت أعلم رغم أنني لم أرها ولم تراني.. إنها مريضة بالمرض العضال الخبيث الذي يأخذ في طريقه الصغير مثل الكبير ويحرم الأحباء من بعضهم للأبد فيموت المريض تاركاً وراءه للحىّ حزن الفراق.. لن أنكر عليك عزيزي القارئ خوفي من كثرة ما حصد هذا الخبيث من أرواحِ سيداتٍ تتفرع من شجرة عائلتي ومن تركهم أحياء ترك لي معهم غصة الرعب من لحظات الفراق. كذلك لن أنكر علي نفسي الانتظار.. ليس تشاؤماً مني ولا علماً بالغيب لا سمح الله وإنما هي مشاعر لا يوجد لها زراً أضغطه فتختفي... إن استردني ربيَّ الآن أو بعد حين هل سأكون قادرة على مواجهة هذا البعث وهذا الوقوف الحتمي في حضرة الله العظمى؟ إنه سؤالي الرابع والأخير والذي أجابتني عنه أمي بإختصارٍ شديد.. "الموت هديه من ربنا" لو كان الإنسان يتعذب ويتعذب المقربون منه بعذابه، يكون الموت هنا هدية من الله.. وبادرتني ببعض الأسئلة "إنتي شريرة؟ بتعملي حاجه وحشه لحد؟ مش واخده بالك من بيتك؟ بتكدبي.. بتسرقي.. بتهملي في شغلك.. عيالك.. زمايلك.. أهلك.. بلدك.....إلخ.. إلخ.. إلخ".. إجابتي عن كل هذه الأسئلة كانت قاطعة وكلها "لأ طبعاً مش بعمل أي حاجه وحشه من دي".. ردت بنبرة مطمئنة "خلاص بقى تخافي ليه؟".. أتعرف عزيزي القارئ مم خفت؟ خفت لأننا نملأ صندوق الدنيا خاصتنا طولاً وعرضاً قدر المستطاع بكل ما تطاله أيدينا من الأصناف الحياتيه، وننسى صندوق الآخرة.. لقد ثُرنا علي الفساد في كل شخص وكل نطاق خارج أنفسنا ولم نثر على أي فساد بداخلنا وإن كان بضع قطرات.. لو أهملت عملك.. فأنت فاسد.. لو أهملت بيتك وأولادك.. فأنت فاسد.. لو أهملت شريك حياتك.. فأنت فاسد.. لو أهملت حق بلدك.. فأنت فاسد.. لو كنت ترمي"زبالتك" في الشارع.. فأنت فاسد.. لو انتهزت فرصة غياب رئيسك في العمل ونمت، فأنت فاسد "إلا إذا كان هوه كمان بيمدد جنبك".. لو اكتفيت برفع الشعارات المناهضة للفساد داخل مظاهرة أو اعتصام وخرجت منها وكأنك "كنت ف حالة وراحت لحالها" فأنت أيضاً فاسد.. فاسد من رأسك لأخمص قدميك.. ليس هذا كل شئ ولكن بهذا القليل هل يمكنك الوقوف أمام الله؟ نادينا بالتغيير وغَيَرنا، فهل تغيرنا؟ هل غيرنا ثوب ما قبل الثورة الرث المهترئ ولبسنا ثوب مصر الجديدة والذي لا يقل ولا يبعد عن ثوب التطهر والتقوى.. ارتدي ثوباً أبيض أو أخضر أو حتى بلون علم مصر.. وإنما ارتديه محبة في الله وفي مصرك "مش منظره قدام الناس".. لن أطيل عليك عزيزي القارئ ولا أريدك أن تقول عني في سرك أو في علانيتك أنني إمرأة كئيبة أو مدعية فأنا يعلم الله والمحيطون بي كم أحب الضحك والضاحكين وحباني الخالق بابتسامة تزين وجهي طوال الوقت ولكن هزتني فاجعة الموت، والتي أتمني أن نضعه نصب أعيننا لنفتح ومن الآن "صندوق الدنيا" ونرمي منه الطالح ونبقي الصالح ليس من باب اليأس أو انتظار الموت وإنما "من باب التغيير"..