ساراماجو يقرأ بينما كلبه يستمتع بحكاياته سارت السيارة في طريق صاعد ، لامسة الأسفلت الذي يشبه حيواناً مختبئاً ، ساحقةً القمامة المتناثرة . قفز فجأة عداد الكيلومترات إلي التسعين ، وهي سرعة تؤدي للموت في شارع ضيق تركن علي جانبيه سيارات . ماذا يحدث؟ رفع قدمه من دواسة البنزين ، وشعر بالقلق . استيقظَ باحساس حاد بأن شيئاً ما قد ذبح حلمه ، ورأي أمامه سطح الزجاج الرمادي والمشبّر ، وشقشقة الفجر الداخل ، بلونه الازرق الرصاصي وبضوئه المتقطع ، هذا الفجر الذي يتزحلق في شكل قطرات مكثفة فوق سطح الزجاج . فكّر أن زوجته قد نسيت أن تسدل الستائر قبل أن تنام ، وغضبَ ، فلو لم يستطع أن ينام من جديد ، سيقضي يوماً عصيباً . لم يكن يتمتع بنشاط لينهض ، ليغطي النافذة ، وفضل أن يغطي وجهه بالملاءة وأن يعود ليعانق زوجته النائمة ، وأن يحتمي بدفئها وبرائحة شعرها المسترسل . داعبه الأرق لعدة دقائق ، فظل منتظرا حتي ينأي عنه ، فالأرق الصباحي أشد ما يخشاه . لكنه سريعاً ما مرت بخاطره صورة الخشب البارد ، وهو السرير ، والحضور المتاهي للجسد الذي يقترب منه ، وهكذا ، غارقا في دائرة الصور الحسية والبطيئة ، سقط في بئر الأحلام من جديد . بدأ سطح الزجاج الرمادي يكتسب زرقة رويداً رويداً ، وينظر بتحديق في الرأسين النائمين علي الوسادة ، كما لو كانا بقايا تم نسيانها عند هجر البيت لبيت آخر ، أو لعالم آخر . وعندما دق المنبه ، بعد مرور ساعتين ، كانت الغرفة مضاءة بجلاء . قال لزوجته ألا تنهض ، وأن تستغل الصباح لتنام قليلا ، بينما نهض هو وتعرض للهواء البارد ، لرطوبة الحوائط التي لا يمكن تعريفها ، للمس أُكر الأبواب ، لفوط الحمام . دخن سيجارته الأولي وهو يحلق ذقنه ، والثانية مع القهوة ، التي كانت قد بردت أثناء ذلك . عطس مثل كل الصباحات . بعدها ارتدي ملابسه في الظلام ، بدون أن يضيء نور الغرفة . لم يكن يرغب أن يوقظ زوجته . أنعشت رائحة الكولونيا المكان ، وهو ما جعل الزوجة تتنهد بلذة عندما مال علي السرير ليقبل عينيها المغمضتين . وهمس لها أنه ربما لن يعود للبيت ليتناول معها الغداء . أغلق الباب وهبط سريعا درجات السلم . كانت البناية تبدو أكثر هدوءً من عادتها . ربما بسبب الضباب ، فكّر . انتبه إلي أن الضباب كان مثل جرس يخنق الأصوات ويغيرها ، يحللها ويخلق منها ما يخلقه من الصور . الضباب يسود . في الجزء الأخير من السلم سيتمكن من رؤية الشارع وسيعرف إن كان قد أصاب في رأيه . في النهاية رأي ضوءً أشهبا ، لكنه حاد ولامع ، يشبه الكوارتز . وشاهد علي حافة الرصيف فأراً ميتاً . وبينما كان يشعل السيجارة الثالثة ، واقفاً أمام باب البيت ، عبر غلام ملثّم ، يرتدي قبعة ، بصق علي الحيوان الميت ، كما علّموه وكما رآهم يفعلون . كانت السيارة علي بعد خمسة بيوت من بيته . وكان محظوظاً أن استطاع أن يركنها هناك. فلقد اكتسب مع الوقت هاجساً خرافياً يوحي له أنه كلما ركن السيارة بعيدا كلما كان احتمال سرقتها بالليل أكبر . وبدون أن يتفوه بذلك لأحد ، كان مقتنعاً تماماً أنه لن يراها مرة أخري لو ركنها في طرف من أطراف المدينة . ها هي قريبة منه ، لذا يشعر بالطمأنينة . كان يبدو أنها مغلفة بقطرات الندي ، والزجاج تخفيه الرطوبة . لو لم يكن الطقس بارداً ، لقلنا إنها ترشح مثل جسد حي . نظر للإطارات كالعادة ، وتحقق سريعا من أن المسّاحات ليست مهشمة ، وفتح الباب . كانت السيارة ثلاجة من الداخل ، ومع الزجاج المكسي بالبخار ، كانت مثل مغارة شبه شفافة غارقة تحت فيضان ماء . فكّر أنه كان من الأفضل أن يركنها في مكان آخر بحيث تنزلق بسهولة بمجرد تشغيلها . أدارها ، وفي الحال زأرت بقوة ، وانتفضت بعمق وضجر . ابتسم ، شاعراً بالرضا . بداية يوم جميل . سارت السيارة في طريق صاعد ، لامسة الأسفلت الذي يشبه حيواناً مختبئاً ، ساحقةً القمامة المتناثرة . قفز فجأة عداد الكيلومترات إلي التسعين ، وهي سرعة تؤدي للموت في شارع ضيق تركن علي جانبيه سيارات . ماذا يحدث؟ رفع قدمه من دواسة البنزين ، وشعر بالقلق . أوشك أن يعتقد أنهم بدّلوا له الموتور بآخر أشد قوة . ضغط علي دواسة البنزين بكل حيطة وسيطر علي السيارة . لم يحدث أمر ذو شأن يذكر . أحياناً لا يتحكم جيداً في ضغطة قدمه . يكفي ألا يستقر كعب حذائه في المكان المعتاد ليحدث خللاً في الحركة والضغط . الأمر في غاية البساطة . شارداً مع الحدث السابق ، لم ينتبه لعداد البنزين . أيكونوا قد سرقوه أثناء الليل ، وهي ليست المرة الأولي ؟ لا . كان المؤشر يشير تحديداً أن التنك ممتليء لمنتصفه . توقف في إشارة حمراء ، وشعر أن السيارة ترتجف بين يديه بشكل متوتر . إنه أمر مثير للفضول . لم ينتبه أثناء هذه الاهتزازات المموجة لما يحدث في بدن السيارة وما يجعل بطنه ترتجف بشدة . عندما صارت الإشارة خضراء ، سار بشكل ثعباني ، متقدماً السيارات التي أمامه . شيئ غريب . الحق إنه كان يعتبر نفسه سائقاً أفضل من الآخرين . إنها مسألة تدريب جيد هذه الخفة في الحركة في الوقت الحاضر ، وربما تحتاج تدريبا استثنائيا . التنك لمنتصفه . لو أعثر علي محطة بنزين تعمل ، سأقتنص الفرصة . ولأكون في الأمان ، مع كم المشاوير التي يجب أن أقضيها قبل ذهابي للعمل ، يجب ان أسير بتنك ممتلئ أفضل . إنه الحظر الأحمق . ذعر، ساعات إنتظار ، صفوف طويلة بها دستات ودستات من السيارات . يقولون إن الصناعة ستلقي عواقب وخيمة . التنك لمنتصفه . هناك آخرون يسيرون في هذا الوقت بأقل من نصف التنك بكثير ، لكن لو كان بإمكانهم ملئه ... مالت السيارة بتوازن ، وبنفس الحركة ترامت علي طريق صاعد مرتفع بلا جهد . وبالقرب منه وجد محطة بنزين قليلة الشهرة ، ربما يكون محظوظاً . وكما الكلب يتجه حيث تدله أنفه ، تسرّب بين العربات الأخري ، اختصر ناصيتين ، ومضي يشغل مكانا في صف الإنتظار . كم هي فكرة نيّرة . نظر في ساعته . ربما تقف أمامه عشرون سيارة . بدون أية مبالغة . فّكر أنه من الأفضل أن يملأ التنك ويذهب للمكتب أولا ثم يقضي مشاويره لاحقا ، حتي يكون مرتاح البال. أنزل زجاج النافذة ونادي علي بائع جرائد كان يعبر . كان الطقس قد اشتد برودة . لكن بالداخل ، في السيارة ، بالجريدة مفتوحة علي المقود ، مدخناً سيجارة بينما ينتظر ، كان يشعر بدفء مريح ، كدفء الملاءة . طقطق ظهره ، كما القط الشهواني يتلوي ، عندما تذكّر أن زوجته مازالت تتلوي في سريرها حتي تلك الساعة ، ففرد جسده علي الكرسي بشكل أفضل . لم تحتو الجريدة علي خبر سعيد . مازال الحظر مستمرا . كريسماس غامق وبارد ، كان هذا احدي المانشيتات . لكن تنكه لا يزال حتي منتصفه . تقدمت السيارة الأمامية قليلاً . خير . بعد ساعة ونصف كان يملأ التنك ، وبعد ثلاث دقائق انطلق بسيارته . كان مشغول البال حيث أخبره عامل محطة البنزين بدون أي نبرة مميزة في الصوت ، لأنها معلومة مكررة ، أن البنزين سيشح عندهم لمدة أسبوعين . وفي الكرسي الذي بجانبه ، كانت الجريدة تعلن عن قيود صارمة . في النهاية ، علي أسوأ الافتراضات ، تنكي ممتليء . ماذا أفعل ؟ أأذهب مباشرة إلي المكتب أم أمر أولاً علي بيت أحد العملاء لأري إن كانوا قد سلّموه الطلبية ؟ اختار المرور علي العميل . فمن الأفضل أن يبرر تأخيره بزيارة عميل من أن يقول إنه قد قضي ساعة ونصف في صف بمحطة بنزين لأن تنكه كان لمنتصفه . كانت السيارة رائعة . فلم يشعر ابداّ بهذه الراحة وهو يقودها من قبل . أشعل الراديو وسمع نشرة الاخبار المنطوقة. تسير الأخبار من سيئ لأسوأ . هؤلاء العرب . هذا الحظر الأحمق . تمايلت السيارة فجأة واتجهت للشارع الأيمن حتي توقفت في صف سيارات أقصر من الصف الأول . ما هذا ؟ أليس التنك ممتلئاً لآخره ، حقاً ، هو ممتليء بشكل فعلي . إذن لماذا هذه الفكرة الشيطانية . حرّك الفتيس ليرجع للخلف ، لكن بدن السيارة لم يطعه . حاول أن يجبره ، لكن التروس كانت تبدو مجمدة . ياللهراء . الآن يصيبها العطل . تقدمت السيارة الأمامية . مرتاباً ، تقدم أيضاُ ، مفترضاً ما هو أسوأ . كل شيئ علي ما يرام . تنفس الصعداء. كيف سيرجع للخلف لو احتاج الرجوع ؟ بعد نصف ساعة تقريباً ، وضع نصف لتر بنزين في التنك ، شاعراً أنه بهلوان تحت نظرة عامل البنزينة المزدرية . دفع له إكرامية كبيرة بشكل غير معقول وانطلق محدثاً ضجيجاً هائلاً بإطارات السيارة وسرعتها . يالها من فكرة شيطانية . الآن إلي العميل ، وإلا سأكون قد أضعت الصباح هباءً. كانت السيارة في احسن حالاتها . وكانت تستجيب لأوامره كما لو كانت امتداداً ميكانيكياً لجسده . لكن مسألة الرجوع للخلف كانت تؤرقه . وسريعا ما وجد نفسه في موقف يستدعي التفكير بجد ، حيث أصيبت حافلة هائلة تقف أمامه بعطل وهي تقف في منتصف الطريق . لم يستطع ان يمر بجوارها ، فلم يسنح له الوقت ، لأنه كان ملتصقا بها . يحرك الفتيس مرة أخري والخوف يسكنه ، والرجوع للخلف يحدث ضجيج شفط طفيف . لا يتذكر ان بدن السيارة أحدث رد الفعل هذا من قبل . أدار المقود ناحية اليسار ، وضغط علي دواسة البنزين وبحركة محتاطة صعدت السيارة فوق الرصيف ، المجاور للحافلة ، وخرج من الجانب الآخر ، طليقاً ، بخفة حيوان . كان شيطان السيارة كما القط بسبعة ارواح . و ربما بسبب التشويش الناتج عن الحظر ، بسبب كل هذا الذعر ، فرضت الخدمات الفوضوية وضع بنزين بجودة عالية في محطات البنزين ! ياله من أمر مضحك . نظر في ساعته . هل من المفيد الآن أن أزور العميل ؟ سأكون محظوظا لو وجدت المتجر مفتوحاً . لو يساعدني الطريق ، نعم ، لو يساعدني الطريق ، سأجد أمامي وقتاً . لكن الطريق لم يساعده . ففي أيام الكريسماس ، وخاصة مع نقص البنزين ، تخرج الناس جمعاء للشارع ، لتوقف حال من يذهب لعمله . عندما رأي السيولة المرورية تراجع عن فكرة زيارة العميل . قد يكون من الأفضل ان اقدم لهم عذرا في المكتب وأؤجل العميل لآخر النهار . وبكثير من الشك ابتعد عن وسط المدينة . حرقت بنزيناً بلا فائدة . علي اي الحال التنك ممتليء . في ميدان ما ، في آخر الشارع الذي كان يهبط منه ، رأي صفا آخر من السيارات في انتظار دورها . لكن السيارة ، علي بعد عشرين مترا ، اتجهت صوب اليسار ، من تلقاء نفسها ، وتوقفت ، برقة ، كما لو كات تتنهد ، في آخر الصف . ما هذا الحدث الجنوني ، فأنا لم أقرر اضافة بنزين أكثر ؟ أي شيطان هذا ، إذا كان التنك ممتلئاً ؟ ظل ينظر للعدادات المختلفة ، وهو يحرك المقود ، مفكرا أن من الصعب عليه ان يتعرف علي سيارته ، وخلال هذه السلسلة من الإيماءات حّرك المرآة ، ونظر لنفسه فيها . رأي في وجهه الحيرة واعتبر نفسه محقاً . ناظراً مرة أخري في المرأة ، ميّز سيارة تهبط من الشارع ، يبدو عليها أنها تنوي الدخول في الصف . ومشغولا بفكرة البقاء في مكانه بلا حركة ، بينما التنك ممتلئاً ، حرّك الفتيس بسرعة ليرجع للخلف . قاومت السيارة وهرب الفتيس من يده . بعد لحظات وجد نفسه محاصراً بين جارين . إنهم شياطين . ماذا حدث للسيارة ؟ كان في حاجة للذهاب لورشة ميكانيكي . ترجع السيارة الآن للخلف بدون أي خطورة . استغرق عشرين دقيقة حتي تقدمت السيارة لمحطة البنزين . رأي عامل البنزينة يقترب فاختنق صوته وهو يطلب منه أن يملأ التنك . وفي هذه اللحظة جاءه وسواس ليهرب من الخجل ، فحرك السرعة الاولي لينطلق . لكن فعله ذهب سدي . فالسيارة لم تتحرك من مكانها. نظر له عامل البنزينة بريب ، فتح التنك ، وبعد عدة ثواني ، طلب منه ثمن لتر ، أدخله في جيبه متأففاً . الحدث التالي ، لم يجد في السرعة الأولي أية صعوبات ، وتقدمت السيارة ، بمرونة ، متنفسة ببطء . جزء ما في هذه السيارة قد أصابه العطل ، إما قطعة غيار، أو الموتور ، أو أي جزء آخر ، الشيطان يعلم أي جزء ! . أو انه قد فقد مهارته كسائق ؟ ، أو أنه مريض ؟ ، ورغم أنه قد نام جيدا ، ولم يكن يشغله شيئ أكثر من اي يوم آخر في حياته . أفضل شيئ أن يقصي عن ذهنه التفكير في العملاء ، ألا يفكر فيهم طول اليوم وأن يبقي في المكتب . كان يشعر بالضجر . وحوله كانت أجزاء السيارة تهتز بعمق ، ليست الأجزاء الخارجية ، بل داخل الحديد نفسه ، والموتور كان يعمل بهذا الضجيج الذي لا يُسمع لرئتين تمتلئان وتفرغان ، تمتلئان وتفرغان . في البداية ، بدون أن يعرف سببا ، فكر ذهنيا في طريق يبعده عن محطات البنزين الأخري ، وعندما انتبه لما يفكر فيه أصابه الخوف، خاف أن يكون الجنون قد أصابه. دخل في شوارع جانبيه ، مختصرا كل الطرق الممكنة ، حتي وجد نفسه امام المكتب . استطاع أن يركن سيارته وتنفس الصعداء . أوقف الموتور ، سحب المفتاح ، فتح الباب . كان عاجزا حتي عن النهوض . اعتقد أن طرف معطفه قد اشتبك في شيئ ، أن ساقه محشورة في محور المقود ، وقام بحركة أخري . وفي النهاية بحث عن حزام الأمان فلربما وضعه دون أن ينتبه . لا . حزام الأمان في موضعه معلقاً من طرف واحد ، مثل المعي الأسود الرقيق . ياللفظاعة ، فكّر . لابد أنني مريض . فكوني لا أستطع النهوض معناه أنني مريض . كان يستطيع أن يحرك ذراعيه وساقيه بحرية ، أن يثني جذعه بخفة تتناسب مع المناورات ، أن ينظر للخلف ، أن يميل قليلا صوب اليمين ، ناحية صندوقة القفاز ، لكن ظهره كان ملصوقاً بظهر المقعد . ليس بشكل صارم ، بل كما العضو الملتصق بالجسد . أشعل سيجارة ، و ، فجأة ، ضبط نفسه يفكر فيما سيقوله رئيسه لو اطل من النافذة ووجده هنا جالسا ، داخل السيارة ، يدخن سيجارة ، بدون أن يتعجل الخروج . أغلق الباب ، الذي فتحه علي الشارع ، عقب سماعه زمارة تنبيه عنيفة . وعندما عبرت السيارة الأخري ، ترك الباب يُفتح مرة أخري ، ورمي السيجارة في الخارج ، و ، ممسكا باحدي يديه بالمقود ، قام بحركة شديدة ، عنيفة . بلا فائدة . ولم يشعر حتي بالألم . أمسك به ظهر الكرسي برقة ، وظل محبوساً فيه . ما هذا الذي كان يحدث له ؟. حرّك المرآة لأسفل ونظر لنفسه . لم يجد أي تغيير في وجهه . ليس إلا آثار حزن غير محدد ولم يسيطر علي الوجه بعد .عائداً بوجهه ناحية اليمين ، صوب الرصيف ، رأي طفلة تنظر له ، بفضول وتسلية في آن . بعد قليل ظهرت امرأة بيدها معطف للشتاء ، أخذته الطفلة وارتدته ، دون أن تكف عن النظر إليه . ابتعدت كلتاهما ، بينما المرأة تهندم ياقة الطفلة وتلم شعرها . نظر في المرآة مجدداً ، متوقعاً ما يجب أن يحدث . لكن ليس هناك . كان هناك أشخاص ينظرون له ، أناس يعرفهم . ناور حتي يبتعد عن الرصيف ، بسرعة ، فارداً يده للباب ليغلقه، وهبط الشارع بأقصي ما في وسعه من سرعة . كان لديه نية ، هدف محدد يبعث فيه الطمأنينة ، ويجعله يتجول بابتسامة علي وجهه تخفف قليلاً من حزنه . نظر فقط في محطة البنزين عندما عبر من أمامها تقريباً . كانت هناك لافتة معلقة تقول " لقد نفد " ، وواصل سيره بالسيارة ، بدون أي تغيير في قبلته ، أو تقليل في سرعته . لم يكن يرغب أن يفكر في السيارة . ابتسم مرة أخري . كان يخرج من المدينة ، في طريقه للضواحي ، وقد اقترب المكان الذي يبغيه . دخل في شارع تحت البناء ، دار يساراً فيميناً ، حتي وصل لطريق خالٍ ، يقع بين حواجز . أمطرت السماء عندما أوقف السيارة . كانت فكرته غاية في البساطة . كانت تكمن في أن يخرج من معطفه ، ساحبا ذراعيه وبدنه ، ومتسرباً منه ، كما تفعل الحية عندما تغير جلدها . لم يتجرأ أن يفعل ذلك امام الناس، لكن هنا ، بمفرده ، بهذه الصحراء التي تحيطه ، بعيدا عن المدينة التي تختبيء وراء المطر ، كل شيئ غاية في البساطة . لقد أخطأ مع ذلك . لأن معطف المطر كان يلتصق بظهر الكرسي ، وبنفس الطريقة بالجاكت ، بالجاكت المنقط ، بالقميص ، بالفانلة الداخلية ، بالجلد ، بالعضلات ، بالعظم . كان هذا هو ما خطر بباله بدون ان يفكر فيه عندما صرخ بعد عشر دقائق ثانياً جسده داخل السيارة ، باكياً ، يائساً . كان سجيناً في السيارة . ومهما حرك بدنه للخارج ، ناحية فتحة الباب التي تدخل منها قطرات المطر يدفعها الهواء البارد والمفاجيء ، ومهما رسّخ قدميه في نتوء بدن السيارة ، لن يستطيع أن ينتزع نفسه من المقعد . أمسك السقف بكلتا يديه محاولاً النهوض . كان كما لو أنه يريد أن ينهض الدنيا . القي نفسه علي المقود ، مرتجفاً ، مرعوباً . وأمام عينيه كانت المسّاحات ، التي بدأت تتحرك دون إرادة منه في وسط الإضطراب ، تهتز بضجيج جاف ، وبسرعة . جاءته من بعيد صفارة من مصنع . وبعدها ، في منحني الطريق ، ظهر له رجل يقود دراجة ، مغلّف بقطعة بلاستك كبيرة وسوداء ، وبالتالي كان المطر ينزلق كما ينزلق فوق جلد عجل البحر . نظر الرجل الذي كان يقود الدراجة داخل السيارة بفضول وواصل سيره ، ربما أصابته خيبة الأمل وشعر أنه وقع في الفخ عندما رأي رجلاً بمفرده ، بلا امرأة تجاوره ، كما تخيل . ما كان يحدث كان عبثا . فلم يحدث لأحد من قبل أن يبقي سجيناً في سيارته ، وبسبب سيارته ، بهذه الطريقة . كان لابد من العثور علي حل لهذه المعضلة ليخرج . فالقوة قد عجزت . ولو ذهب لورشة ؟ لا . فكيف سيشرح حالته ؟ . أيهاتف الشرطة ؟ . وبعدها ؟ . قد تتجمع الناس ، وتنظر جمعاء ، بينما تحاول السلطة أن تجذبه من ذراعه وقد تطلب مساعدة من الحاضرين ، بلا فائدة تذكر ، لآن ظهر الكرسي يمسك فيه بعذوبة . وقد يأتي الصحفيون والمصورون ، وتنشر صورته وهو داخل سيارته في الجرائد في اليوم التالي ، ويشعر بالخجل كحيوان قصوا شعره بلا اتقان يقف تحت المطر . كان عليه أن يبحث عن طريقة أخري . أوقف الموتور ، وبدون أن يقاطع الإيماءة ، تحرك بقوة للخارج ، كمن يهاجم فجأة . بلا نتيجة . جرحت جبهته ويده اليسري ، وسبب له الألم دوخة أطالت ، بينما رغبة عارمة ومفاجأة في التبول قد هاجمته ، فلم يكن بوسعه سوي أن يطلق هذا السائل الساخن لينصب وينزلق بين ساقيه ليستقر علي أرض السيارة . عندما شعر بكل هذا ، بكي بكاءً خافتاً ، له عواء ، بشكل بائس ، وظل هكذا حتي جاء ، من المطر ، كلب هزيل ، وبدأ يعوي ، بلا اقتناع ، علي باب السيارة . انسحب ببطء ، بحركات ثقيلة تشبه حركات من يحلم أنه داخل مغارة ، وتقدم في طريقه ، باذلاً ما في وسعه من جهد لئلا يفكر ، لئلا يترك هذا الموقف ينطبع في إدراكه . وبطريقة عفوية كان يعلم أنه في حاجة إلي مساعدة أحد . لكن ، من يكون هذا الأحد ؟ إنه لا يود أن يثير الخوف في نفس زوجته ، لكن ليس أمامه حل آخر . فربما تتمكن هي من إكتشاف حل . وعلي الاقل سيشعر أن هناك من يصطحبه في محنته . عاود الدخول للمدينة ، منتبهاً لإشارات المرور ، دون أن تصدر منه أية حركة فظة في كرسيه ، كما لو أنه يرغب أن يهديء القوي التي تستحوذ عليه . كانت الساعة قد تخطت الثانية ، وبدأ اليوم في الإظلام . شاهد ثلاث محطات بنزين ، لكن السيارة لم تتأثر بالأمر . كلها كانت ترفع لافتة " لقد نفد " . وكلما دخل المدينة ، كان يلاحظ وجود سيارات مهجورة في أوضاع غير طبيعية ، بمثلثات حمراء في الفتحة الخلفية ، وهي إشارة تعني في احوال اخري وجود عطل ، لكن ما كانت تعنيه الآن هو نقص البنزين . وشاهد مرتين مجموعة رجال تدفع سيارات فوق الأرصفة ، بغضب جم ، تحت الامطار التي لم تتوقف بعد . بمجرد أن وصل للشارع الذي يقطنه ، تحتم عليه أن يتخيل كيف سينادي لزوجته . أوقف السيارة أمام المدخل ، تائهاً ، يقف علي حافة أزمة عصبية . تمني أن تحدث المعجزة التي فيها تستمع زوجته لنداء نجدته الأخرس . وانتظر دقائق طويلة ، حتي اقترب منه طفل فضولي من ابناء جيرانه ، فطلب منه ، بعد أن أغراه بعملة معدنية ، أن يصعد للطابق الثالث ويخبر السيدة التي تقيم هناك أن زوجها ينتظرها في السيارة ، " واذهب سريعا ، فالأمر طاريء " . صعد الطفل وهبط ، قال إن السيدة قادمة ، وابتعد مهرولا ، فقد بدأ يومه . نزلت المرأة كما تسير عادة في البيت ، بدون حتي أن تتذكر أن تجلب معها شمسية ، والآن كانت امام عتبة البيت ، حائرة ، تزوغ عيناها بلا قصد صوب الفأر الميت علي حافة الرصيف ، فأر رقيق ، بشعر مقنفد ، وتتردد في عبور المدخل تحت المطر ، وساخطة بعض الشيئ علي زوجها الذي جعلها تهبط بلا سبب ، بينما كان بإستطاعته أن يصعد بلا أدني مشكلة ليخبرها بما يريد . لكن زوجها كان يقوم بإيماءات من داخل السيارة ، فأصابها الذعر وركضت نحوه . وضعت يديها في جيبي المعطف ، وأسرعت الخطي لتهرب من المطر ، وعندما فتحت الباب أخيراً رأت أمام وجهها يد زوجها مفتوحة ، تدفعها دون أن تلمسها . أصرت وأرادت أن تدخل ، لكنه صرخ في وجهها : لا ، فهناك خطر ، وحكي لها ما جري ، بينما كانت مائلة تتلقي قطرات المطر في ظهرها ، ويشعث شعرها ، ويغلف الرعب كل ملامح وجهها . ورأت زوجها ، في هذا الصندوق الدافيء والمشبر الذي يعزله عن الدنيا ، متقهقرا كلية في كرسيه ، محاولا الخروج من السيارة دون أن يستطيع . تجرأت وأمسكته من ذراعه ، وجذبته ، غير مصدقة ، ولم تتمكن أيضا أن تزحزحه من مكانه . ولأن هذا الموقف فظيع بما فيه الكفاية ومن الصعب تصديقه ، ظل كل منهما يتبادل النظر مع الآخر في صمت، حتي خطر ببالها أن زوجها قد أصابه الجنون وأنه يتصنع عجزه عن النهوض . كان عليها أن تنادي شخصاً لتختبره ، وليصطحبه للمكان الذي يعالجون فيه من الجنون . وبكل حيطة ، وبكلمات كثيرة ، قالت لزوجها أن ينتظر قليلا ، فلن تتأخر ، وإنها ستذهب لتبحث عن شخص يساعده في الخروج ، وهكذا سنتناول غداءنا معا ، وقد أهاتف المكتب لأخبرهم أنك مصاب ببرد شديد . ولن أذهب للعمل في فترة الظهيرة . اهدأ ، فالأمر لا يستحق ، سأعود في غمضة عين . لكن ، عندما اختفت هي في السلم ، عاد ليتخيل نفسه محاطاً بالناس ، وصوره في الجرائد، وتملكه الخجل لأنه تبول بين ساقيه لأسفل ، وانتظر عدة دقائق . وبينما كانت زوجته في الطابق العلوي تجري اتصالات تليفونية في جميع الانحاء ، بالشرطة ، وبالمستشفي ، وتكافح من أجل ان يصدقوها هي لا صوتها ، مقدمة اسمها و اسم زوجها ، ولون السيارة وماركتها ورقم لوحتها ، لم يستطع هو الاحتمال والخيالات ، فأدار الموتور . عاودت المرأة الهبوط بعد أن اختفت السيارة وانزلق الفأر من حافة الرصيف ، أخيراً ، ودار مع الشارع المائل ، يسحبه ماء المصرف الذي كان يجري . صرخت المرأة ، لكن الناس تأخرت في الظهور وكان من العسير جدا شرح الأمر . ظل الرجل يتجول في المدينة حتي فرد الليل جناحيه ، عابراً أمام محطات بنزين لا وجود لها ، وواقفا في صفوف إنتظار بدون أن يكون قد قرر ذلك ، ويداهمه القلق لأن نقوده كانت تنفد ولم يكن يعرف ما قد يحدث عندما تنفد وتتوقف السيارة بجانب محطة بنزين ليملأ التنك .لم يحدث هذا ، ببساطة لأن كل البنزينات بدأت في الاغلاق وصفوف الإنتظار التي كان يراها كانت تحجز لليوم التالي ، وكان أفضل شيئ حينئذ أن يهرب حتي لا يعثر علي محطة بنزين مفتوحة ، حتي لا يتحتم عليه الوقوف . وفي شارع طويل وعريض ، خالٍ من سيارات أخري ، أسرعت سيارة شرطة وتقدمته ، وبينما كانت تتقدمه أشار له شرطي أن يتوقف . لكنه شعر بالخوف من جديد ولم يتوقف . سمع خلفه سارينة الشرطة ورأي ايضا ، لا يعرف من اين جاء ، سائق موتوسيكل يرتدي الزي الرسمي ، وقد أوشك أن يلحق به . لكن السيارة، سيارته ، زأرت ، وانطلقت بشكل مدهش ، وتقدمت للأمام ، صوب مدخل طريق سريع . كانت الشرطة تطارده من بعيد ، ومع مرور الوقت تزداد المسافة بينهم، وعندما ازدادت الظلمة لم يبق لهم أثر ، وكانت سيارته تجول في طريق آخر . كان يشعر بالجوع . وتبول بين ساقيه من جديد وشعر بالخزي مرة أخري . وكان يهذي : أنا مذلول ، أنا مذلول . كان يقطع الكلمة إلي مقاطع ، دون مراعاة للحروف الساكنة والمتحركة ، إنه تدريب غير واع ومتسلط يدافع عنه ضد الواقع . لم يوقف السيارة لأنه لم يكن يعرف سبباً ليوقفها . لكنه ، عند الفجر ، ركن مرتين بجانب الرصيف وحاول أن يخرج علي مهله ، كما لو انه في هذه الأثناء قد وقع اتفاق سلام مع السيارة و الآن قد حانت لحظة اختبار مدي حسن نية كل منهما . مرتان تحدث فيهما بصوت خفيض عندما أمسك به الكرسي ، مرتان حاول إقناع السيارة أن تتركه يخرج بالحسني ، مرتان في البادية المظلمة والمثلجة حيث لا تتوقف الأمطار ، انفجر في الصراخ ، في البكاء ، في العواء ، في اليأس الأعمي . عادت جروح الرأس واليد إلي النزيف . وظل يقود السيارة منهنهاً ، مخنوقاً ، مرتجفاً كما الحيوان المرعوب . لم يكن يقود السيارة ، بل تركها هي تقوده . سافر طوال الليل ، دون أن يعرف إلي أين . عبر قري لم ير اسمها ، وسار في طرق طويلة، وصعد جبالاً وهبط منها ، ودخل في منعطفات ومنحنيات ، وعند شقشقة الفجر كان في اي مكان ، في طريق خرب ، صنعت فيه قطرات الماء بركاً وفاضت من حوافها . كان الموتور يزأر ، والإطارات تنطلق في الوحل ، وكل أجزاء السيارة تهتز ، بضجيج مقلق . أشرق الصبح بكامل بهائه ، بدون ان تظهر الشمس ، لكن المطر توقف . تحول الطريق لطريق بسيط يمكن السير فيه ، وفي كل لحظة يبدو أنه يتوه بين الأحجار . أين كان العالم ؟ . لم ير أمام عينيه سوي سلسلة جبلية وسماءً قريبة بشكل مذهل . أطلق صرخة وضرب بقبضة يده المغلقة علي المقود . في هذه اللحظة بالتحديد لاحظ أن مؤشر عداد البنزين يقف فوق الصفر. بدا أن الموتور تحرك من تلقاء نفسه وسحب السيارة عشرين مترا . ظهر الطريق من جديد ، لكن البنزين قد نفد . تبللت جبهته بالعرق البارد . وتملك الغثيان منه ، ونفضه من شعر رأسه لأخمص قدميه . غطي حجاب عينيه ثلاث مرات . ومتلمساً علي غير يقين ، فتح الباب لينقذ نفسه من الاختناق الذي أحاط به ، وبهذه الحركة ، لأنه علي وشك الموت أو لأن الموتور قد مات ، تدلي الجسد من الجانب الأيسر وانزلق من السيارة. انزلق مرة أخري قليلا وسقط بين الأحجار . وبدأت السماء تمطر من جديد.