منذ سنوات طويلة وبعيدة قبل تولى محمد حسنى مبارك رئاسة مصر تنبات له عرافة بتولى الحكم فى مصر ولكنها قبل أن تنهى كلامها قالت له : إن نهاية حكمك ستكون فى السويس .. وفسرها فى وقتها الرجل أنه سيتعرض للإغتيال فى المدينة الساحلية وسيموت هناك ومن ساعتها لم يزر السويس على الإطلاق إلا مرة واحدة على إستحياء بعد عامين فقط من توليه المنصب وشهدت إجراءات أمنية غير مسبوقة وتمت فى إطار سرى للحد الذى لم يسمح فيه للصحفيين والإعلاميين بالإقتراب على غير المعروف وتناثرت الشائعات غير المؤكدة فى ذلك الوقت عن إحباط محاولة لتفجير مهبط الطائرة العمودية التى هبطت به فى شركة السويس لتصنيع البترول. وبصرف النظر عن الشائعات والزيارة اليتيمة للسويس فإن حسنى مبارك الذى عرف وأشتهر عنه إهتمامه بالجوانب التأمينية وبأمنه الخاص لم يدخل السويس على الإطلاق فيما بعد وإكتفى فقط بالوجود على بعد كيلو مترات منها مثل قيادة الجيش الثالث فى عجرود التى تبعد عن المدينة بما يقرب من 25 كيلو متراً أو فى العين السخنة التى تبعد عن المدينة بضعف المسافة .. وظل فى حالة خصام للمدينة لمدة وصلت إلى 28 عاماً عرف خلالها بكراهيته الشديدة للسويس عكس من سبقه فجمال عبد الناصر كانت المدينة على قمة أولوياته ومن المحافظات المقربة له فأحبه شعب السويس وإعتبروه أنه منهم. وتكرر الأمر مع الرئيس محمد أنور السادات الذى كانت له زيارة سنوية على الأقل للسويس كانت دائماً فى اليوم الأخير لشهر رمضان و كان يأتى للمبيت فيها ثم يصلى عيد الفطر فى مسجد الغريب مع الأهالى فى المدينة ويعود للقاهرة .. ولكن الإستثناء الوحيد أن السوايسة لم يرحبوا فى يوم ما بالرئيس السادات فى بلدهم ولم يبادلوه الحب لدرجة أن أصعب المواقف التى كان تؤلم السادات عند دخوله للبلد ألا يرى أحد من الأهالى فى إستقباله أو أن يطلب أحد من قيادات المقاومة للجلوس معه فيذهب له بحماس. والسبب فى كراهية السوايسة للسادات أنهم إتهموه على الدوام أنه لم يقدم للمدينة التى ضحت بالأبناء ونزف أولادها الدماء ما يتناسب مع حجم التضحيات ووضع الإسماعيلية وبورسعيد فى مكانة أفضل منها ولكنهم ظلوا على الدوام يقدرون الرجل دون أن يؤيدوه أن ينافقوه أو يظهروا له الود عكس الحال مع مبارك الذى كرهه السوايسة مبكراً جداً وإعتبروه عدوا لهم للحد أن جهاز أمن الدولة السابق وفرعه فى السويس كان دائماً فى حالة حيرة من هذه الظاهرة التى وصلت للذروة عندما فرح قطاعات غير قليلة من السوايسة بمحاولة الإغتيال التى تعرض لها فى أديس ابابا وخزنوا جداً لخروجه منها سالماً بعدما تحول لكابوس مزعج لهم وله دفعه فى إحدى المرات أن يهاجم المدينة بشكل مباشر وعلنى ثم أنه نفسه لم يكن يخفى كراهيته للسويس شعباً ومدينة .. ولم يكن هناك ما يمنع السوايسة أن يبادلوه نفس الشعور بدليل أن السوايسة سعدوا جداً بإعتذار الرئيس عن زيارته للمدينة التى كان مقرراً لها قبل الإنتخابات الرئاسية الماضية بإستثناء سيف الدين جلال المحافظ السابق للمدينة الذى بكى لإلغاء الرئيس للزيارة. وفى كل الأحوال فإن البلد التى كرهت مبارك وحزبه الوطنى الذى تطلق عليه بشكل علنى الحزب الواطى حققت نبوءة العرافة بعد سنوات طويلة من حكم الرئيس المخلوع رغماً عن انفه وكتبت السطر الأول فى نهايته فى يناير الماضى .. ولكن الحقيقة أن السويس لم تبدأ المقاومة ضد حسنى مبارك فى يناير فقط وإنما يمكن القول إن السويس هى المحافظة الوحيدة فى مصر التى قاومت وناصرت النظام العداء من سنوات طويلة بدليل أنها البلد التى لم ينجح الحزب الواطى – كما يطلق عليه السوايسة - طوال حكم مبارك فى أن تكون له الغلبة فى أى إنتخابات وهو ما يفسر لماذا رفض النظام عبر العقود الزمنية الماضية فى زيادة دوائر السويس من إثنتين إلى ثلاثة مثلما حدث فى العديد من المحافظات. والإجابة جاءت على لسان قيادات الواطى فى مناسبات عديدة منها ما قاله أحمد فتحى سرور رئيس مجلس الشعب السابق أكثر من مرة أن دوائر السويس دوائر مفقودة للحزب ومن الصعب السيطرة عليها ففى إنتخابات 2005 كانت السويس المحافظة الوحيدة التى لم ينجح منها أحد من الحزب الواطى الوطنى على الإطلاق ونجح إثنان من الأخوان المسلمين ومثلهما من المستقلين بصرف النظر عن إنضمامهما فيما بعد للحزب الوطنى ومن قبلها لم يكن للوطنى أى تمثيل طالما كان توافر للإنتخابات الحد الأدنى من الشفافية. ويعرف عن السوايسة أنهم ليسوا هؤلاء الذين يستطيع أحد ان يلوى ذراعهم ويشتهرون بعنادهم ربما لأن غالبيتهم مطمئن لحد كبير لمصادر رزقه أو يؤمن بأن النظام لن يستطيع أن يمنعهم شيىء قدره الله لهم أو يعطيهم ما لم يكتبه الله لهم بحكم أن غالبيتهم من الأصوليين الإسلاميين والسويس هى أكبر مدينة بها جماعات دينية والسبب يعود إلى فكر المقاومة وماتربى عليه السوايسة فى حرب الإستنزاف ومن رموز المقاومة التى أصلت فى داخلهم التدين ولكنهم فى جميع الأحوال اكثر شعب يمارس العناد مع حكامه وهو ما فسره سيف الدين جلال محافظ السويس المخلوع قبل إنتخابات مجلس الشعب السابقة عندما قال إن السوايسة يعشقون العناد فإذا طلبت من أحدهم أن يصوت لمرشح الحزب الوطنى فإنه نكاية فى تعليماتى وفى الحكومة سيصوت لمنافسه حتى إذا لم يكن مقتنعاً به .. والحل – من وجهة نظر سيف – أن تتدخل الشرطة فى الصناديق الإنتخابية مثلما حدث فى إنتخابات 96 التى شهدت تزوير فج لصالح مرشحى الوطنى أحمد هلال وصلاح شلاضم .. بصرف النظر عن قيمة الراحل الأول للسويس وتاريخه الكبير فيها ولكن وجوده فى الحزب كان يكلف الكثير بدليل أنه فى إنتخابات 2000 أستبعد وسقط الثانى لصالح رفعت بشير وفاروق متولى ومشكلة السويس أنه شعب ليس العناد فقط أهم خصائصه وإنما أيضاً فكر المقاومة الذى مازال يعتبر أسمى شيء عند السوايسة فلا شيء يعلو عن المقاوميين ولا مكانة لأحد يحصل عليها مثل المقاوم أو الفدائى .. فالسويس التى إشتهرت بقدرتها على المقاومة فى حرب الإستنزاف ثم فى الثغرة فى حرب 1973 والتى يشهد على بسالة رجالها العالم كلها والتى ردت العدوان الإسرائيلى ولم يخش رجالها من قوة الآلة الحربية لإسرائيل من مدافع ودبابات وصورايخ وقناصة وغيرها من كل وسائل القتل الحربية هى نفسها التى مازالت بعد ما يقرب من أربعين عاماً تقدر المقاومة وتشتاق إليها. إن الميزة التى يشتهر بها شباب السويس دون غيرهم والمتعة الحقيقية التى يجدها الأطفال بمجرد أن تدرك عقولهم وأسماعهم الكلمات والحكايات تكون قصص المقاومة فما من طفل سويسى أو شاب تربى فى هذه المدينة وولد فيها وعاش عليها إلا وكانت وسيلة تسليته فى السويس حواديت المقاومة التى تمتزج فيها الحقيقة بالأسطورة والرغبة فى مقاومة الظلم وعدم التسليم بالقهر أقوى بكثير من كل الأسلحة فالمثل الأعلى للسوايسة يختلف عن أى مدينة فرموز الشعب هؤلاء المقاومين الذين حاصرتهم إسرائيل فى 1973 ومنعت عنهم كل شيء ولكنهم قرروا الحياة فعاشوا من أجل المدينة ودفاعاً عن العرض والوطن .. وهؤلاء هم المثل الذى يتمنى كل سويسى أن يصل لمكانتهم حتى يكون حكاية جديدة للصغار قبل الكبار .. والمقاومة هنا تتحول لدى السوايسة لعقيدة فهى المحافظة الوحيدة التى يعرف عنها أن ضباط الشرطة لا يستطيعون التعدى على أحد من رجالها الشرفاء حتى فى ملاعب الكرة لأن فى هذه الحالة يكون الرد عنيقاً. والسويس هى البلد الوحيدة التى تقاوم فى العلن ويخطىء من يظن أنها بدأت الحرب ضد مبارك ونظامه فى 25 يناير فما لا يعرفه الكثيرون أن السويس عاشت بمفردها ليال طويلة من المقاومة ولم تهدأ ثورتها على مدار 30 عاماً هى فترة حكم مبارك ولكن الذروة كانت عقب إنتخابات مجلس الشعب الأخيرة التى شهدت أعنف الإحتجاجات التى بدأت بمسيرة حاشدة لم تخش الشرطة ولا الأمن المركزى ولا تحذيرات الضباط وتوجهت لمقر المحافظة ومديرية الأمن وهتفت بعنف ضد مبارك ونجله جمال ووالدته سوزان وصلت فى بعضها لسبهما بكلمات نابية كان صاحب النصيب الأوفر منها سيف الدين جلال المحافظ وكان أبشعها ما قاله السوايسة ياجمال قول لأبوك السوايسة بيكرهوك .. وفى رواية أخرى ياجمال قول لأبوك السوايسة هاي.... - بقية الكلمة لفظ سيء لا يمكن كتابته .. ثم تعرض حبيب العادلى وزير الداخلية للهتافات العنيفة .. وتعرضت المحافظة للرشق بالطوب ومعها مديرية الأمن. ورغم عنف المظاهرات وسخونة الهتافات فإنها لم تشتعل وتم السيطرة عليها لسبب بسيط يتعلق بأن سيف الدين جلال يعد من أكثر المحافظين علماً بشخصية وطبيعة الشعب السويسى الذى يتفرد بأنه لا يخشى من عنف الآخر ولا النظام بقدر ما يكون العنف الصادر منهم مناسبة لأن يبادلوه مثله وبدرجة أقوى وما لا يعرفه الكثيرون عن طبيعة السوايسة أنهم من الشعوب القليلة التى يجيد أفرداها فن صناعة المفرقعات والعبوات الحارقة التى تسمى بقنابل المولوتوف والتى تم ضرب الشرطة بها طوال أيام الثورة ثم أنهم يجيدون فن قتال الشوارع والأهم أن البلد بحكم أنها ساحلية وتضم على حدوها الكثير من المحاجر والجبال فمن السهل الحصول على المتفجرات فجزء كبير من الشماريخ التى تستخدم فى ملاعب الكرة يأتى عن طريق السويس وجزء كبير من صواريخ الصوت التى تحدث ضجيجاً كبيراً وألواناً فى السماء هى من السويس لأن المراكب تستخدمها كإشارات فى البحر .. ولا يوجد تاجر مخلفات سفن إلا ويمتلك الكثير منها ولكن يبقى الأهم قدرة الأهالى على صناعة المتفجرات اليدوية بما يجعل المواجهة بالأسلحة مع الأهالى أشبه بالحروب الأهلية وهو ما كان يعرفه سيف الدين جلال ومنع مدير الأمن محمد عبدالهادى حميدة – يحاكم الآن لقتله المتظاهرين – فى البداية من اللجوء له. ولجأ المحافظ لحيلة مختلقة لتفريق المتظاهرين الذين هتفوا ضده - وأذاقوا النظام متمثلاً فى مبارك ونجله جمال وزوجته سوزان ما لم يجرؤ عليه غيرهم - إلى أن يسرب شائعة عن طريق المسئولين بالمحافظة واللجنة العامة المشرفة على الإنتخابات بأن الإنتخابات باطلة ولم يتم إعتماد النتيجة وسيتم إعادتها خلال ايام فذهب المتظاهرون لمنازلهم بعدما إحتفلوا بالنصر على الظلم وإسترداد حقوقهم ولكنهم فوجئوا فى اليوم الثانى بغير ما سرب إليهم وأنه لا إعادة للإنتخابات وأقصى ما حصلوا عليه صفقة نجاح مرشح التجمع عبد الحميد كمال الذى كان يستحق بالفعل النجاح بعيداً عن أى صفقات. وماحدث فى إنتخابات مجلس الشعب والإحتجاجات الحقيقية العنيفة التى تلت إعلان النتيجة كان المقدمة الحقيقية لإنفجار ضخم أو بمعنى أدق كان هو الزلزال العنيف الذى لم يتنبه له أحد بالقدر الكافى ولو كلف أحد نفسه حق دراسة ما حدث فى الإنتخابات لعرف أن تسونامى التغييرات فى مصر قادم وستبدأ أمواجه فى السويس إن لم تكن قد إنطلقت بالفعل فى ذلك اليوم وقبل يناير بشهرين .. هذه هى الحقيقة التى لم يعرفها جهلاء أمن الدولة ولا بصاصيين حبيب العادلى ولا حاشية مبارك لتكون شرارة النهاية لعصر من الإستبداد.. ولكن ما حدث بعد ذلك تفاصيل الحلقة الثانية من السويس أحلى الثورات.