لا أستطيع سوي أن أشعر بسيطرة أفكار «تيم بيرتون» وروحه التي تميل للطفولة علي ملامح جوائز مهرجان «كان» في هذه الدورة!! برغم أنني توقعت ثلاث جوائز في العدد الصادر أمس الأول صباح يوم الأحد وذلك قبل إعلان النتائج في مساء نفس اليوم.. فإن الجوائز في نصفها الثاني الخارج عن توقعاتي كان مفاجأة كاملة الأركان لي وأيضاً بالتأكيد لغيري.. لا أحد يزعم أنه الوحيد الذي يملك أن يحدد الفيلم الصالح لاقتناص الجائزة لأن الذوق الشخصي من المؤكد أنه يلعب دوراً ولكن تظل هناك بعض أفلام تتمتع بحس فني وتفاصيل إبداعية تضعها في بؤرة الجوائز وتخطيها يبدو تجاوزاً يستحق التوقف عنده.. بالفعل توقعت عدداً من الجوائز أعلنتها اللجنة وفوجئت بأخري خابت فيها توقعاتي.. وسوف أبدأ بتوقعاتي الصائبة وبعدها أنتقل إلي الخائبة.. كتبت أن فيلم «آلهة وبشر» للمخرج «كزافيه بوافو» سوف يحصل علي الجائزة الكبري وهو ما حدث بالضبط وفي العادة فإن هذه الجائزة تأتي للتجارب التي تخرج عن السياق العام كبناء سينمائي، والفيلم تعرض لما حدث في مطلع التسعينيات مع بداية سطوة الإرهاب المسلح بالجزائر الذي رفع السلاح ضد الجميع.. كان الفيلم من خلال السيناريو قد قدم تفاصيل لهذه العلاقة وإن كان لم يتتبع أبطاله إنسانياً أكثر.. الجائزة الأخري التي توقعتها هي أن تحصل «جولييت بينوش» علي جائزة أفضل ممثلة وكان الدور الذي تؤديه يقف علي خيط رفيع جداً بين أنها تكذب وتصدق كذبتها وتنقل لنا كمشاهدين هذه الأحاسيس المتناقضة بين الكذب وتصديقه.. وبرغم ضعف الممثل الذي شاركها البطولة فإنها كانت تبدو وكأنها تحلق بمفردها في سماء عالية لا يطاولها أحد.. الفيلم إيراني في مذاقه الفني وليس من جنسيته فهو يحمل جنسيتين الإيطالية والفرنسية ولكنه إيراني بإحساس المخرج «عباس كيروستامي».. بناء فني ممتع دائماً يترك لك قيمة فكرية هي التي تحركك للتفكير والتأمل خارج الشكل التقليدي للسينما الأوروبية فهو فيلم وصل إلي آفاق أرحب.. أيضاً الممثل الحائز علي جائزة أفضل ممثل «خافيير باراديم» الفيلم مكسيكي الجنسية وعنوانه «جميل» توقعت له الجائزة.. المقصود بكلمة «جميل» والتي احتوت علي خطأ مقصود في كتابة الكلمة بالإنجليزية هو أن البطل «جميل» السلوك والمشاعر برغم أنه يمارس كل أنواع السلوك الشائن من أجل حصوله علي المال.. نكتشف أنه مصاب بسرطان البروستاتا وفي مرحلة متأخرة جداً وأن شبح الموت يطل عليه.. ويعيش المأساة وهي أن زوجته مدمنة للخمر ولديه طفلان ولم يبق له إلا شهور يريد أن يوفر لأسرته أموالاً علي الأقل تكفيهم لمدة عام بعد رحيله.. الغلظة في السلوك مع الآخرين التي تبدو خارجية مع الرقة الشديدة في تعامله مع ابنتيه.. خوفه من اقتراب الموت وفي نفس الوقت قدرته علي المواجهة وتحدي الموت.. تفاصيل نجح فيها «خافيير» واقتنص الجائزة.. كانت لجنة التحكيم قد منحت جائزة أفضل ممثل له مناصفة مع الممثل الإيطالي «إيليو جيرماني».. والغريب أنه أيضاً يؤدي دور أب يفقد زوجته وهي تنجب له ابنه الثالث ويبدأ في تحمل مسئوليته عن الأبناء.. الفيلم أقرب إلي قطعة من الحياة تم استقطاعها من السياق الذي نعيشه يومياً لنري فيها نبض السينما وأدي الممثل دوره بعفوية مفرطة. الجائزة الأولي وهي «السعفة الذهبية» هي التي أثارت الكثير من التساؤلات.. إنها الأقرب إلي روح المخرج «تيم بيرتون»، حيث أفلامه تتحول إلي التعامل ببساطة وطفولة والفيلم الفائز بالجائزة الأولي «عم بونمي يتذكر حيواته السابقة»، حيث إن بطل الفيلم ينتظر النهاية بعد إصابته بفشل كلوي.. وخلال هذا الزمن الذي يفصله عن الأيام الأخيرة من حياته يستدعي كل الذين قابلهم خلال مشوار السنين ورحلوا عن الحياة مثل زوجته وابنه.. الغريب أن الابن نراه وهو أقرب إلي الحيوانات ويبدأ البطل في التساؤل عن حقيقة نفسه هل هو بشر أم حيوان أم نبات؟!.. حيث إنه يعتقد دينياً أنهم يعيشون حيوات سابقة، ومن هنا جاء العنوان «الحيوات» وليس فقط حياة لأنه يعتقد بمبدأ التقمص وهو أن الإنسان قد ينتقل بعد رحيله إلي أجساد أخري امرأة بعد أن كان رجلاً أوحيوانات أو نباتات وهكذا.. وهو يبدو وكأنه يراجع كل ما مر به ويطرحه في تساؤل فلسفي عن جدوي الحياة وهل كان مخلصاً في كل ما أقدم عليه من قبل أم لا؟!.. شاهدت الفيلم في قاعة تتسع لنحو أكثر من ألفي مشاهد من النقاد و الصحفيين والإعلاميين وهي قاعة «دي. بي. سي» المخصصة عادة للعروض الرسمية للمهرجان وكان وقع أقدامهم وهم يهرولون خارج القاعة يعلو في كثير من الأحيان علي صوت حوار الفيلم.. المخرج قدم فيلمه بشجن كانت هذه هي نواياه، بينما أغلب الجمهور من الحاضرين كان مستغرقاً في الضحك ورغم ذلك فإن رئيس اللجنة «تيم بيرتون» هو والأعضاء تحمسوا لهذا الفيلم الذي اقتنص «السعفة الذهبية».. أما المفاجأة كانت في حصول فيلم محمد صالح هارون «صرخة رجل» الفيلم الذي مثل دولة «تشاد» واقتنص جائزة لجنة التحكيم الخاصة.. توقعت لهذا الفيلم جائزة التمثيل كنت أري أن بطل الفيلم «يوسف ديجارو» من الممكن أن ينافس في الحصول علي جائزة أفضل ممثل ولكن المفاجأة أن الفيلم نفسه حصل علي جائزة استثنائية وهي جائزة لجنة التحكيم.. الفيلم بسيط وهادئ.. هل كانت البساطة والهدوء هما الطريق للجائزة أم أن هناك أشياء أخري.. أما أكبر تساؤلاتي بل قل إحباطاتي فهي أن يخرج «مايك لي» المخرج البريطاني بفيلمه «عام آخر» خاوي الوفاض من أي جائزة هي المفاجأة الكبري.. فلقد كانت المسافة شاسعة بينه وبين كل الأفلام في المسابقة التي تتنافس معه، ولكن يبدو أن «تيم بيرتون» وأعضاء لجنة التحكيم وضعوا علي العكس مسافة شاسعة بين هذا الفيلم وكل جوائز المهرجان!!