هتف الحاضرون فى افتتاح مهرجان دبى أول من أمس «تحيا مصر»، وكان للسينما والنجوم المصريين حضورهم الطاغى، حظِيَت السينما المصرية بنصيب الأسد فى قائمة أفضل 100 فيلم، وشاركنا بعدد كبير من الأفلام فى كل التظاهرات، وحصل الناقد الكبير سمير فريد على جائزة الإنجاز، وبعدها أمسك المخرج الفلسطينى هانى أبو أسعد الميكروفون قبل عرض فيلمه «عمر» فى الافتتاح قائلًا: «لولا السينما المصرية ما كان من الممكن أن أصعد للمنصة»، ثم هتف بناءً على مشاعر ورغبات الحاضرين: «تحيا مصر».
أتابع دائمًا أفلام هانى أبو أسعد بقدر كبير من الشغف، شاهدتُ لهانى لأول مرة فيلمه «زفاف رنا» فى قسم «أسبوعى المخرجين» فى مهرجان «كان» قبل أكثر من عشر سنوات، وكان الفيلم يعلن مباشرة أن المقاومة هى الحل، وهى ليست فقط بإطلاق الرصاص ولا الحجارة ولكن بممارسة طقوس الحياة بكل أبعادها، لأن إسرائيل تريد اغتصاب الحياة، لهذا يصبح حفل الزفاف الذى أقيم فى الشارع وفى عز المقاومة إحدى وسائل المقاومة التى يخشاها ويتحسَّب لها الإسرائيليون مثلما يخشون إطلاق الرصاص، فى فيلم أبو أسعد الرائع «الجنة الآن» 2005، كان يشرع للمقاومة بالسلاح ولكنه يرفض إباحة قتل المدنيين، وهو الفيلم الحاصل على جائزة الكُرة الذهبية، ورُشِّح من بين خمسة أفلام لأفضل فيلم أجنبى فى مسابقة الأوسكار قبل سبع سنوات، وهى سابقة لم تتكرر سوى مرة أو اثنتين على المستوى العربى.
فيلمه الأخير «عمر» شارك فى مهرجان «كان» الأخير وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى قسم «نظرة ما»، ثم يُصبح فيلمه هو افتتاح تلك الدورة الاستثنائية فى تاريخ المهرجان، بمناسبة الدورة العاشرة للمهرجان.
أبو أسعد هذه المرة يقدِّم لنا شخصية المناضل بعيدًا عن تلك الصورة النمطية التى تحيله إلى كائن مثالى، الأبطال الثلاثة الذين يطلقون النيران على الجندى الإسرائيلى من خلال عملية بدائية جدًّا شاهدناها أكثر مرة، ولا أظن أن الأمور لم تتطور، الجدار العازل بين الخطين الأخضر والأحمر يلعب دور البطولة، بطل الفيلم ينتقل ما بين الجانبين، فهو يعمل داخل الخط الأحمر الذى تسيطر عليه إسرائيل بينما حبيبته فى الخط الأخضر الذى تحكمه السلطة الفلسطينية، وهى كما نعلم جميعا سلطة محدودة، ولا يزال لإسرائيل اليد الطُّولَى فى التحكُّم بكل تفاصيل الحياة، داخل المعتقَل نقترب أكثر ونكتشف أن الخيانة وجه آخر للنضال، بل هى تُشكِّل نوعًا من التلازم بينهما، حتى الشكّ بين أغلب الأطراف، الكل لديه احتمال بأن الآخر قد يصبح عينًا مزروعة لصالح الإسرائيليين، جزء من تفاصيل صورة النضال، الأبطال الثلاثة رماديون، لأنهم، بشر وتحرر المخرج من تلك الملامح المغرقة فى المثالية التى تحيط عادة التركيبة المرتبطة بشخصية الفدائى.
كما أنه حرص على أن يقدم لنا البيت الفلسطينى بطقوسه وتفاصيله ليمهِّد من خلال هذا الخط الاجتماعى لكون الصراع الدموى حتى بين الأبطال ممكنًا، حيث تتحول القضية الشخصية إلى البؤرة ويصغر أمامها النضال الوطنى، وهكذا نرى فى نهاية الأمر أن الصراع يأخذ مَنحًى أشدَّ ضراوة وخطورة إذ ينتهى بقتل أحدهم.
يبقى أن المخرج سيطر عليه فى بنائه للفيلم تلك الحالة الدرامية، أخذته الحكاية والخطوط الحادة، كان يريد أن يقدم تفاصيل إنسانية ولكنه وقع أسير الحكاية التقليدية مثل أن الفتاة التى يحبها البطل عمر يدّعى صديقه أنه أقام معها علاقة جنسية وصارت حاملًا، ثم نكتشف قبل النهاية أنها مجرد خدعة لإبعاده وإلصاق تُهمة الخيانة به. وتنتهى الأحداث بطلقة ينهى بها عُمر حياة رجل المخابرات العسكرية المسؤول عن تلك القضية، وهو حل يؤكِّد أنه لا بديل عن الصراع المسلَّح. من الملامح التى لعب بها المخرج الإيحاء الذى يعنى أن يضيف المشاهد للشاشة عمقًا من خلال خيط يرسله المخرج، البطل الذى وصفته أجهزة المخابرات الإسرائيلية ب«سبايدر مان» (الرجل العنكبوت).
والذى كنا نشاهده مع اللقطات الأولى وهو يتنقل برشاقة بين الجانبين الأخضر والأحمر، فى اللقطات الأخيرة يبدو أمامنا عاجزًا تمامًا عن التسلُّق مجددًا إلى الجانب الآخر حيث يعمل خبازًا، ونرى رجلًا متقدمًا فى العمر بالزى التقليدى الفلسطينى وهو يأخذ بخاطره ويحنو عليه، إنه الانكسار، إلا أن عمق المقاومة لا يزال حاضرًا أيضًا من خلال هذا التاريخ الذى أوحت به ملامح الشيخ الفلسطينى.
وينتهى الفيلم، ولا ينتهى فى مشاعرى هتاف «تحيا مصر».