قبل يومين صعد سعيد صالح على خشبة المسرح الكبير وتسلم الجائزة من المهرجان القومى للسينما عن دوره فى فيلم «زهايمر» إنها واحدة من المرات القليلة التى يتم فيها إنصاف هذا المبدع الكبير. شاهدناه أخيرًا بعد نصف قرن من العطاء يحتضن جائزة.
عندما يذكر اسم سعيد صالح يداعبك على الفور اسم رفيق المشوار عادل إمام، فهما فى الذاكرة الجماعية الصديقان الصعلوكان مرسى الزناتى وبهجت الأباصيرى فى «مدرسة المشاغبين» تلك المسرحية التى شكلت مرحلة انتقالية فى مسار ومصير الكوميديا، حيث أعلنا انقلابًا فى المملكة، سعيد وعادل قدما شفرة كوميدية عصرية لها مذاق مختلف، بعد جيل مدبولى والمهندس وعوض، ومن بعدها تسيدا المسرح والسينما والتليفزيون.
عادل وسعيد أو سعيد وعادل فلم يكن هناك فى البداية من يستطيع أن يؤكد من هو الزعيم، بل إن سعيد كان هو المرشح الأول لدور الأباصيرى، وكان عادل هو الزناتى ووافق سعيد على التغيير فى اللحظة الأخيرة نزولا على رغبة صديقه، وأصدرا خلال عرض المسرحية البيان الأول لمملكة الكوميديا الجديدة، وهو ما أدركه عبد المنعم مدبولى الذى كان يؤدى دور الناظر قبل تصوير «المشاغبين» تليفزيونيا بحسن مصطفى، أيقن مدبولى أن هناك مَن يريد إزاحة جيلهم، ولهذا كان يعلن يوميًّا التذمر مهددًا سمير خفاجة صاحب فرقة المتحدين المنتجة للعرض بالانسحاب لو لم يتم وقف سعيد وعادل عن الخروج على النص، ووجد خفاجة بخبرته أن هؤلاء هم القادمون لا محالة فضحى بمدبولى.
عادل كان يشعل موهبته فأحاطها بسياج من العقل، بينما سعيد لم يفعل شيئًا سوى أنه كان يسعى جاهدًا إلى تفجير تلك الموهبة. عادل عقل يفكر ويخطط وسعيد مشاعر تهدد وتبدد، عادل يمتلك بوصلة تحدد خطواته القادمة، وسعيد ليس لديه أساسًا خطوة قادمة.
ورغم ذلك، فإن تصفيق الجماهير له فى أثناء تكريمه وهذا الدفء وتلك الحميمية التى قوبل بها، كانت الشهادة الحقيقية التى نالها. إنها جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وهى بالفعل جائزة خاصة جدًا لفنان خاص جدًا جدًا.
«الأول أكلنا المش والثانى علمنا الغش والثالث لا بيهش ولا بينش» واحدة من مأثوراته المسرحية مثل «اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى» و«أستك منه فيه» وغيرها.. تلك اللزمة التى أطلقها فوق خشبة المسرح مستقبلًا بها فى مطلع الثمانينيات بداية حكم المخلوع حسنى مبارك فهو الثالث، وكان يقصد بالأول عبد الناصر والثانى السادات، لم تدخله هذه العبارة السجن مباشرة، ولكن لم تنسها له أجهزة الدولة فكان أول فنان يدخل السجن بعدها ببضعة أشهر لخروجه على النص، وذلك عندما أمسك بسنارة فى إحدى المسرحيات وسألوه ماذا تفعل؟ أجابهم: «بصطاد نسوان»، وهى جملة كما ترى مهذبة جدًا بالقياس لما كنا نسمعه ونستمع إلى أكثر منه الآن، ولكنها تُعد فى عُرف القانون خروجا على النص المسرحى المصرح به من قبل الرقابة وهى بالتأكيد «تلكيكة»، وبعدها عرف السجن مجددًا بتلكيكة أخرى بسبب تعاطى المخدرات وذلك فى منتصف التسعينيات، حيث ألقوا القبض عليه فى شقته بالإسكندرية، والتعاطى جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن من عام إلى خمسة أعوام، ولكن هل يعتقد أحد أن سعيد صالح الوحيد بين أقرانه الذى يدخن الحشيش أم أنهم نشنوا عليه؟
سعيد لديه عين قادرة على أن تلتقط المواهب، كان هو أول من أشار إلى موهبة أحمد زكى عندما كان يكتب اسمه ثلاثيا أحمد زكى عبد الرحمن، شاهده سعيد بين المجاميع فى مسرحية «القاهرة فى ألف عام» فقدمه إلى نجوم تلك المرحلة عادل إمام وصلاح السعدنى والمنتج سمير خفاجة، ومن بعدها جاءته الخطوة الأولى فى «المشاغبين»، والغريب أن سعيد لم يشارك أحمد زكى البطولة فى أى فيلم سينمائى، وهو فى الحقيقة لم ينتظر شيئًا من أحد.
أنشأ سعيد فرقة مسرحية أدت إلى خسارته كل أمواله ولم يكتف فقط بالتمثيل، بل غنى ولحن وهو غير مؤهل على الأقل للتلحين، وبدد طاقته فى عديد من المسرحيات والأفلام المتواضعة، ولو عقدت مقارنة ستكتشف أن رصيد عادل المسرحى بعد أن عرف البطولة المطلقة مع «شاهد ماشافش حاجة» لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بينما سعيد لديه 300 مسرحية، وفى السينما رصيده يصل إلى 500، قرابة خمسة أضعاف رفيق المشوار، ولكن أغلبها من الصعب أن يمكث فى الذاكرة.
ورغم ذلك، فإن لديه فى وجداننا بصمة لا تُمحى، سعيد هو التلقائى ابن البلد الذى لم يضبط يومًا وهو يبحث عن رضاء حاكم ولم يسع إلى تكوين شلة إعلامية تحقق له صورة ذهنية مثالية عند الجماهير وتحيل هزائمه إلى انتصارات، سعيد هو فقط سعيد بشطحاته وجنونه.. «مرسى الزناتى اتنصف أخيرا يا رجااااالة!!».