"إليك ما سنفعل اليوم يا فتى! اليوم سنكره بعض الزنوج! أجل! أنا لا أعرف كيف هم الزنوج، ولكننا سنقضي اليوم في كراهيتهم"! عندما تابعتُ جريمة قتل بعض المواطنين الشيعة منذ يومين، تذكّرت فجأة هذه العبارة من الفيلم الأمريكي "التاريخ الأمريكي إكس" (American history X)، والذي تناول قضية العنصرية بشكل عبقري. مبدئيا.. أنا أعترف أني أعرف مَن هو القتيل حسن شحاتة منذ سنوات ليست بالقليلة، عندما صدمني تسجيل صوتي لأحد دروسه، والذي تناول فيه بعض الصحابة بالسبّ بأقذر الألفاظ.. أنا إذن أملك ما يكفي من الأسباب لأبغض الرجل، فقط أنا أرفض قتله وأراه جريمة لإيماني أن أي مجتمع يحترم نفسه لا يقوم فيه البعض بسحل وقتل مَن يسيئون لمقدّساتهم، بل يتخذون ردود فعل أكثر رقي وعقلانية تبدأ بالمحاورة والمراجعة والمناظرة، ثم تنتهي بالتحرّك القانوني. السؤال الآن: بين كل مَن ارتكبوا تلك الجريمة ومَن باركوها أو برّروها أو دعوا لها أو فرحوا بها ونظروا لها بعين الرضا، بين كل هؤلاء، مَن يعرف بالفعل ما يكفي عن المجني عليهم؟ هل هم مِن الشيعة الرافضة الذين يرون في سبّ أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومَن خالف الإمام علي -كرّم الله وجهه- واجبا تعبّديا؟ أم هم مِن الشيعة الزيدية المعتدلة التي أجاز علماء السنّة التعبّد بمذهبهم؟ أم هم مِن طائفة شيعية أخرى لا هذه ولا تلك؟ هل يعرفون مَن هم حقا الشيعة؟ وما فِرقهم ومدارسهم وتياراتهم ومواقف كل منها؟ (بالمناسبة.. أنا كثيرا ما صادفت مَن يخلط بين الشيعي والشيوعي!!) ماذا يعرفون عن توزيعات الشيعة جغرافيا وسكانيا؟ عن آرائهم الفقهية والعقائدية؟ جرّب أن تنتقي عيّنة عشوائية من هؤلاء الذين يهتفون ضد الشيعة، وأن تطرح على كل منهم بعض الأسئلة السابقة، وسترعبك نتيجة أن أغلبهم يكرههم فقط لأنه سمع هذا الشيخ أو ذاك يُهاجمهم؛ فقرّر هو أن يكرههم على سبيل الواجب. قِسْ على مثال كراهية الشيعة باقي "حالات" الكراهية العامة لفئة بأكملها؛ ككراهية البعض لليبراليين أو العلمانيين أو السلفيين أو اليساريين؛ فمع الأسف قد انتشر مرض "الكراهية بالتعميم" في مجتمعنا، ترى ذلك فيمن يتهمون كل السلفيين بالجهل والظلامية، والليبراليين بالانحلال والفساد، والعلمانيين بمعاداة الأديان... إلخ. وألفت نظر القارئ هنا إلى أن اتخاذ موقف تعميمي من فئة أو تيار كامل يختلف عن اتخاذ نفس الموقف من فصيل أو حزب أو جماعة، فبينما الأول عادة ما ينقسم لمدارس واتجاهات يصعب تعميم الحكم عليها؛ فإن النوع الآخر يكون عادة كيانا واحدا له نفس الثوابت والمواقف الموحّدة. وأنا هنا لست في مجال للدفاع عن الشيعة أو مهاجمتهم، ولكني في محلّ الدفاع عن العقل؛ فليس من المقبول عقلا أن نقرّر كراهية فئة كاملة من البشر دون أن نجمع ما يكفي من المعلومات والمعرفة عنهم، ثمّ بعد ذلك نقوم بتقييم تلك المعلومات وتحليلها وصولا لإجابة 3 أسئلة مهمة: - هل يجب أن نكره هؤلاء القوم؟ - لماذا يجب أن نكرههم؟ - لأي حد ينبغي أن تصل كراهيتنا لهم؟ وقبل طرح هذه الأسئلة؛ فإن هناك سؤالا أهم وأعلى هو "مَن هم هؤلاء القوم أصلا؟". أتذكّر هنا قصة قرأتها سابقا عن الفنان شارلي شابلن؛ فقد بلغ علمه أن مجموعة إرهابية يابانية كانت تنوي اغتياله انتقاما من جرائم أمريكا بحقّ اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.. عندئذٍ ابتسم وقال: "ماذا لو بعد أن قتلوني اكتشفوا حقيقة أنني لست أمريكيا، بل أنا في واقع الأمر مواطن بريطاني، هل كانوا سينحنون أسفا أمام جثتي الممزقة المضرجة بالدماء ويقولون: أوه.. نحن آسفون؟". هكذا يفعل التعصّب الأعمى في كل مكان في العالم.. قاتل الشهيد فرج فودة لم يكن يعرف ما هي العلمانية، ولم يقرأ للقتيل حرفا واحدا.. الشهيدة مروة الشربيني قتلها متعصّب ألماني فقط؛ لأنها مسلمة محجبة دون أن يعرف ما هو الإسلام أصلا.. ملايين الأمريكيين هلّلوا لضرب جورج بوش الصغير للعراق وأفغانستان بغير أن يعرفوا حقا مَن هم العرب والمسلمون.. الحشود الإيرانية تهتف قبل كل صلاة جمعة بالموت لمن يرفض ولاية الفقيه، دون أن يسألوا لماذا يرفضها.. الوباء ينتشر ويعربد في العالم، الوطن، المدينة، البيت والعمل والشارع، يُحاصرنا وينتهك العقل والمنطق. إن مثل هذا ال"لا عقل" وال"لا منطق" يبتذل قضايانا ويخلط نبيلها بالتافه منها، ويساهم في جعل المتعصّبين والمتطرفين من الخصوم يتخذون من عدالة أي قضية لنا مضغة في أفواههم، وهو قبل ذلك جريمة في حق العقل الذي كرّم الخالق عز وجل بني آدم به.. من المنطقي بالطبع أن يكون لنا أعداء وخصوم، ولكن على كل منّا قبل أن يكوّن موقفه الشخصي أن يفكّر ويبحث ويسأل نفسه: "لماذا عليّ أن أعادي هؤلاء القوم؟"، حتى وإن كان يبحث في أمر معاداة بعض الفئات المنتمية لتصنيف "عدو تقليدي" كالصهاينة مثلا؛ فإمّا أن يكتشف أن لا مبرّرات منطقية لكراهية هذا الشخص أو هذه الفئة؛ فيغيّر موقفه أو أن يستمرّ على حمل العداوة والبغضاء لهم، ولكن هذه المرة على أساس ثابت وخلفية معرفية منطقية قوية وحجج مفهومة. ومع الأسف؛ فإن وباء التعصّب الجاهل ينشره في وطننا أناس محترفون في تشويه العقول والنفسيات من شيوخ التطرّف ودعاة الكراهية وتجّار الدين والدم وانتهازيي السياسة والسلطة.. أولئك الذين يريدون للناس أن يكونوا مجرّد جماهير غفيرة أو قطعان من الخراف المطيعة توجّهها لذاك فتهش له وتبش، ولهذا فتكشّر عن أنيابها وتستبيح حرماته.. يسيرون في الحياة بمنطق الشيخ الشهير الذي قال ذات مرة على الملأ في فيديو شهير: "الشيخ لمّا يقول لك اعمل دي.. تعمل دي حتى لو مش على مزاجك"، أو الرئيس الذي يأمر شعبه بالطاعة العمياء قائلا: "إني أرى ما لا ترون".. أمثال هذين لا أرى ردا عليهما سوى قول الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "أأنت تحمل عنّي وزري يوم القيامة.. لا أم لك؟!". إنني أحتقر فعل قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق -وهل يملك عاقل ذو خلق ألا يفعل؟- ويزيد احتقاري أن يكون الفعل بدافع كراهية ورفض الآخر.. ويضاعفه بمراحل أن يرتكب القاتل جريمته وهو يجهل كل شيء عن المقتول؛ فهو بمثابة مَن يوقّع على بياض رهانا بمصيره في الدنيا والآخرة. وإنني كذلك أحتقر التعصّب والعنصرية، ولكني عادة ما أكون أقل احتقارا وازدراءً للمتعصّب العنصري الذي بنى موقفه على تفكير وبحث، حتى وإن انحرفت النتيجة عن الطريق السوي، أمّا المتعصب الجاهل -أمثال أولئك الذين قتلوا الشيعة في الجريمة الأخيرة والذين باركوا ذلك- فإن شعوري تجاههم يتجاوز مرحلة الاحتقار.. ليتهم كانوا يعرفون ما يكفي عن ضحاياهم قبل أن يقرّروا استحقاقهم القتل! إذن.. لكان للجريمة أن تكون -رغم الثبات على رفضها واستنكارها- أقل ابتذالا، ولا أملك إلا أن أقول ضاربا كفا بكف: "تبا! حتى التعصب بقى بيلِم"!