عن ذلك الهُراء الذي يملأ عقول كثير من ضعاف الثقافة والعقول من المسلمين تجاه إخوانهم المسيحيين, نستكمل حديثنا.. وألفت نظر القارئ العزيز لثلاثة أمور هامة: الأول هو أن تلك الفئة التي أتحدث عن أفكارها الفاسدة لا تمثل أغلبية المسلمين الذين يؤمنون بأن الدين لله وأنه -عز وجل- سيقضي بين المختلفين في أمره بالحق يوم القيامة. والثاني أن قلة تلك الفئة لا تعني الاستهانة بأمرها؛ فالخطر لا يُقاس بمساحة انتشاره بل بعمق أذاه. أما آخر ما أنبه به القارئ فهو أن يقرأ الجزء السابق من هذا المقال لتكون لديه خلفية عن موضوعنا وأبعاده. فلنعد لموضوعنا إذن ولنستكمل الحديث عن أشهر الأفكار والأقاويل الخاطئة بشكل فاحش بحق إخواننا المسيحيين.. -"بيكنّزوا فلوس إيه! الله ينور!! وشغالين في كل حاجة مش سايبين!" لا أعرف من أول من أطلق تلك الفكرة "الفظة" من نوعها؛ لكنه بالتأكيد عبقري بشكل لا يمكن احتماله؛ فقد قرر هكذا أن براعة فئة من الناس في تكوين وتنمية الثروات والتخصص في مجال التجارة الحرة أمر يستحق الذم والشجب والاستنكار!حقًا كيف يجرئون أن يكونوا بتلك البراعة؟! بحق الله! فلنعترف جميعًا أن نسبة المتميزين من المسيحيين في مجال المال والأعمال الحرة، نسبة كبيرة وجودها في الساحة الاقتصادية ملموس وإيجابي؛ ولعل رجل الأعمال الوطني نجيب ساويرس خير مثال؛ ولكن أي بأس أو ضرر في ذلك؟ أليسوا مصريين ورؤوس أموالهم مصرية وطنية، أم أن كونهم مسيحيين يعني أن عليهم أن يقنعوا بالضيق من الطموح والقليل من النجاح؟ أليست تلك هي عنصرية أتت من نفس الجعبة العفنة التي أتت منها كل فكرة عنصرية يمارسها الغرب أحيانًا ضد مسلميه ونشكو جميعًا منها؟ أم أننا لا نحس ألم التمييز الديني إلا حين يوجه ضدنا فنصير ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؟ ثم إن اعتبار ذلك النجاح أمراً سيئا لا مبرر له ولا تفسير منطقي؛ فعلى حد علمي المتواضع لم نسمع عن أن الناجحين ماديًا من المسيحيين سعوا لتوظيف أموالهم في تكوين ميليشيا مسيحية أو شراء أسلحة دمار شامل من كوريا الشمالية. والمثير للغيظ أن أصحاب ذلك القول الاستنكاري لنجاح الآخرين كثير منهم يمرون مر الكرام على كثير ممن قد يكسبون أموالهم من المصادر المشبوهة فقط لأنهم مسلمون. أي أن"جريمة" المسيحي هي أنه كذلك، وأنه يسعى لتحقيق نجاح مادي كأي شخص آخر! أما الشِق الآخر من العبارة "شغالين في كل حاجة"؛ فهو عبارة عن تجسيد حي للوقاحة المطلقة, فبأي حق يستنكر هؤلاء أن يعمل أي شخص, مسلم أو مسيحي, في هذا المجال أو ذاك؟ إن ذلك المنطق المختل يفترض أن على غير المسلم أن يقبع في جحر ضيق ولا يفكر-مجرد تفكير- في أن يكون له طموح أو أن يحقق نجاحات.. وأنا أسأل من يفكرون هكذا: أية شريعة تلك التي تستندون إليها؟ فأنا -كدارس للشريعة الإسلامية- لم أقرأ مثل ذلك الكلام في قرآن ولا سُنة.. فمن أين أتوا به؟ إن العبارة عنوان تلك الفقرة عبارة عن "تلكيك" يمارسه كل عنصري مريض النفس والعقل ليحوّل سلوكًا بشريًا طبيعيًا لفرد أو أفراد يريد اضطهادهم, إلى جريمة أو عمل مريب يخوله هو وأمثاله أن يبثوا كراهيتهم في القلوب. والله خصيم من يروّجون لمثل تلك الأفكار. "دول بيقولوا: "سعيدة مباركة" كأنها كلمة عادية؛ بس هم قالوها شماتة عشان سيدنا محمد مات ففرحانين, والقساوسة بتوعهم بيلبسوا إسود مخصوص حزنًا على إن مصر فيها مسلمين": أولا: الجزء الخاص ب"سعيدة مباركة" هذا لم أجد له سندًا في أي كتاب تاريخي محترم, ومن بحثت في كتبهم كانوا ممن يهتمون بكل تفصيلة صغيرة أو كبيرة، ثم إن أي طفل يعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد انتقل للرفيق الأعلى قبل فتح مصر بأعوام, أي أن أقباط مصر لم يكن بينهم وبينه ما يجعلهم يفرحون أو يحزنون لوفاته؛ فكيف غاب ذلك عن مخترع تلك الكذبة المكشوفة؟ والمصريون كلهم كانوا يستخدمون حتى وقت قريب كلمة "سعيدة" التي انقرضت الآن ككثير من التعبيرات الكلاسيكية. ثانيًا: مسألة اللون الأسود هذه, أنا لا أعرف جيدًا سبب اختلاف ألوان رجال الدين حسب رتبهم أو وظائفهم؛ لكني أعلم ببساطة أن ارتداء السواد للحزن عادة مصرية فرعونية قديمة, وأن المسيحيين في مصر بالذات لديهم في وجدانهم الجمعي وموروثهم الديني شِق هام أساسي يتعلق بالحزن على تعذيب وصلب المسيح -وفق عقيدتهم- وعلى حد علمي؛ فإن السواد في ملبس القساوسة الأرثوذكس يرتبط بالحزن سالف الذكر, بشكل يتشابه بعض الشيء مع ملبس رجال الدين الشيعة الداكن عادة بحكم حزنهم الدائم لمقتل الحسين. إذن فلون الملبس هنا لا شأن له بالمسلمين, وهو مرتبط برجال الدين المسيحي من قبل دخول العرب مصرًا بكثير. ثم إن التاريخ يقول إن أقباط مصر تعاونوا مع العرب الفاتحين بصدر رحب وبأمر من البطريرك بنيامين -أبو الكنيسة القبطية آنذاك- واعتبروا أن "أبناء إسماعيل" جاءوا لتخليصهم من بطش البيزنطيين؛ فكيف لم يلاحظ مبتكر تلك الكذبة ذلك التناقض الكبير بين شقيّ كذبته؟ ثم إن أغلب رجال الدين المسيحي من كل مذهب وكل بلد يرتدون السواد.. أي أن الأمر ليس حكرًا على مصر إذن.. مما يعني أن من يخترعون تلك الأكاذيب ليسوا بالكاذبين فقط, بل هم كذلك على قدر مريع من الغباء. انت ما تعرفش دول بيقولوا علينا إيه في الكنايس؟ يا عم دول بيكرهونا كره العَمَى, وربنا قال لك: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}: طالما أني ألزمت نفسي الصراحة المطلقة -الصادمة أحيانًا- في حديثي في هذا الموضوع, فدعوني أكرر ما قلتُ في الجزء السابق "إيماني كمسلم بعقيدتي يتضمن معارضة لبعض أساسيات عقائد غيري, وكذلك إيمانهم بعقائدهم يتعارض جدًا مع بعض مكونات عقيدتي, وهكذا.. في كل دين وكل مذهب "هذا أمر طبيعي؛ فلو اتفقت العقائد بنسبة 100% لما قلنا إن هذا دين وهذا آخر, ولما تعددت الأديان وتحولت اختلافاتها لمجرد اختلافات في مذاهب تقع تحت بند عقيدة واحدة.. وهذه حقيقة يعرفها كل مسلم وكل مسيحي, أن أخاه في الوطن يختلف معه في العقيدة, فما المشكلة؟ ألم يتعايشا -المسلم والمسيحي ومعهما اليهودي- لقرون معًا مع علمهم بالاختلاف الواسع؟ ثم إن الله تعالى لو أراد أن يكون كل أبناء آدم على ملة واحدة لخلقهم كذلك, ولكنه عز وجل جعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف, ولم يقل "لتتحاربوا" أو "لتتباغضوا" أو "لتتصادموا"؛ بل قال عز وجل "لتعارَفوا".. وفارق كبير جدًا بين أن يقال في الكنيسة "كلام يعارض عقيدة المسلمين" وأن يقال "كلام يدعو لمحاربة المسلمين"؛ فالأول من الأمور الطبيعية التي تجري في كل دين, أما الآخر فهو تهمة خطيرة، وعلى من يدعيها على الآخر أن يقدم دليلاً قويًا عليها ما دام المبدأ الشرعي يقول "البينة على من ادعى". وحتى لو وقعت حوادث فردية لكلام في إحدى الكنائس فيه تجاوز في حق المسلمين؛ فمن الطبيعي أن بين كل أهل دين الصالح والطالح, وكما أن بيننا -نحن المسلمين- متطرفين متعصبين؛ فهم متوفرون في كل أهل دين آخر, ولكن طالما أننا لا نرضى لأنفسنا أن نؤخذ بذنب مسلم متعصب؛ فمن حق المسيحيين كذلك أن لا يؤخذوا بذنب مسيحي متعصب, فالواحد الشاذ لا يقاس عليه.. وأما عن الآية الكريمة {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} فلم يرد فيها ذكر "العداوة" بل ذُكِرَ "عدم الرضا", وفارق كبير بينهما؛ فأنا يمكنني أن أحب شخصًا وأوده؛ ولكن "لا يكتمل رضائي عنه" إلا بأن يكون مثلي في الفكر أو المذهب أو الهوى..أمر طبيعي في كل إنسان؛ ولكن هل يعني أني سأعاديه لو أنه اختلف عني؟ أو لو أخذناها بمثال آخر صريح: أنا لي أصدقاء مسيحيون, ومنهم من يعتبر بمثابة أخ لي. هل أنكر أني كنت سأكون أكثر "رضا" عنه لو كان مسلمًا مثلي؟ وهل ينكر هو أنه كان ليرضى عني بشكل أكبر لو كنت مسيحيًا مثله؟ وهل "عدم اكتمال الرضا بنسبة 100% "يعني أن أعاديه أو يعاديني أو ينفر أحدنا من الآخر؟ أنا هنا لا أتصدى لتفسير الآية؛ فلهذا متخصصون, ولكني أعرض "فهمي الشخصي" لها.. أن "عدم الرضا" لا يعني العداء.. مما يجعل استشهاد أصحاب مبدأ "كلهم أعدائنا" هذا بتلك الآية الكريمة أمر في غير محله. ختام: بسم الله الرحمن الرحيم {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون} صدق الله العظيم سؤال لكل متعصب يرى الاختلاف عن دينه عداوة: هل لو كان كل مسيحي عدوا لنا كان سيكون في كتاب الله مكان لكلمة "مودة" فيما يخص العلاقة بين المسلمين والمسيحيين؟ إن القائل بتعميم العداوة؛ إنما يدفعه جهله لأن يرمي الله تعالى بالعبث, سبحانه عن ذلك. نعم.. فهل من المعقول أن يكون كل مسيحي عدوا للمسلمين، وفي نفس الوقت يكون من "أقرب الناس مودة" لهم؟
سؤالي بسيط.. وإجابته بسيطة تفرض نفسها, ولكن ماذا نفعل مع العناد والجهل والجرأة الناجمة عن اجتماعها لدى أناس قرروا أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض! وأن يفسدوا في الأرض ويقولوا إنما نحن مصلحون! فليهدِ الله الجميع.. تم اقرأ أيضاً: أنتَ مُسلم ولّا مسيحي؟.. (1)