أنا أكتب هذه الكلمات على عجل وانا اعرف ان مصيرها شيء من اثنان (اثنين)، اما سأتي بعد ساعات لأمزقها، أو في يد المباحث العامة بمحافظة الفيوم.. أكتب على عجل لأن طارق ينتظرني، لا تعرف طارق؟ نعم نعم ؛ فأنا لم اذكره من قبل. سأكتب الحكاية على عجل بخطي المتواثب أملا ان يأتي أحد لمساعدتي لو حدث شيء لا قدر الله لي أو لطارق!! البداية إني لم أذهب من قبل في أي من القوافل الطبية التي تشرف عليها كليتنا، شيء غريب.. طيلة حياتي تمنيت أن أكون طبيبا لأعالج الفقراء بالمجان ولأمسح دموع المرضى و.. و.. إلى اخر الخطبة التي ستجدها في اي قصة تحت كلمة طبيب. وها أنا ذاك في السنة الرابعة بكلية الطب ولم أفكر حتى في الذهاب مرة. سبات طويل صحوت منه لأجد اني أضعت نصف حياتي الجامعية دون أن اقترب و لو (ولو – لا مسافة بعد واو العطف) خطوة من هدفي الأساسي ؛ ولذلك قررت الذهاب هذه المرة. دوري كان بسيطا، التوعية الصحية. نمر على البيوت ننصح الناس بكيفية الاستحمام والعادات الصحية السليمة وطرق مواجهة البلهارسيا والعدوى اليومية التي يتعرضون لها بأستمرار، كل شيء يسير كما هو مخطط له درجة انه اصبح أقرب الى الملل. إلى ان جاء اليوم الذي رأيت فيه هذا البيت، مرقما برقم 57 يقف في موقع غريب بالنسبة لبيوت القرية؛ فهو لا يوجد في اي من الصفوف المعتادة، ولكنه يمثل نهاية شارع أو شيء مميز من هذا القبيل. نظرت في الخريطة بيدي لأجد ان هذا البيت ضمن البيوت الواجب تغطيتها من قبل فريقي. نظرت إلى دليلنا الصغير طارق لأسأله عن من يقطن هذا البيت؛ لينظر لي بعين متسعة زادتها الزرقة رعبا و يقول لي بشفاه مرتجفة: "ده بسم الله الرحمن الرحيم".. لم أدرس من قبل في تدريبات القافلة شيء يخص "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا السرطان الذي يعامله السكان هنا كتابوو. من ينطق أسمه يسقط ميتا بلا نقاش!! نظرت لطارق نظرة معاتبة واصررت على نيل إجابة عن طريق السخرية من رجولته وأن "اي بنت في الفصل ستجيب بلا تردد"، ويبدو ان محاولاتي جاءت بفائدة، حيث بدأت شفتاه في التحرك: "مش عارف يا دكتور أحمد.. في صوت بهايم جوه.. و ناس بتضحك بليل و حاجات بسم الله الرحمن الرحيم". "بسم الله الرحمن الرحيم" تاني.. سألته إذا كان يقصد عفاريت؟ وأجاباني بصمت مطبق ينصحني بعدم المحاولة حتى لا يرحل. لم أعر نظراته المحذرة اهتماما وأنا أتوجه ألى الباب الحديدي للبيت وأطرقه بقوة لأجده يفتح بصوت صرير عميق كأنه كان مواربا فقط. الحر القائظ والذباب الملون ثقيل الظل وصوت الأطفال يلعبون بعبدا مع رائحة السماد، كلها مفردات أختفت تماما حالما وطئت قدمي ساحة البيت. تذكرت افلام الرعب التي شاهدتها عندما اكون على وشك سب البطل بسبب غبائه المحكم الذي يجعله يصر على كشف وجه القاتل الفاقد الوعي قبل ان يهرب!! لماذا هذا الفضول البشع؟ لماذا لا يهرب ليحافظ على حياته؟ لماذا لا يكون متأكدا أن القاتل سيفتح عينيه فجاة وتطبق يديه على قدميه؟ أوقفتني أفكاري والسكون المطبق في المكان كأن الصوت لا يجرأ على عبور هذه الأسوار. لم يكن واجبي هو ما يحركني لاطرق على الباب و اسجل اسماء القاطنين؛ بل كان فضولي واقتناعي التام ان هذه الاحداث لا تصلح للواقع. من المستبعد أن اجد شبحا أبيض يقطر دما يتوجه ناحيتي وحتى لو كان صحيحا فلسوف اجد الوقت الذي سيسمح لي بالجري نحو البوابة. مشيت المسافة من البوابة الخارجية المعدنية للباب الخشبي المتداعي، لم أفضل طرق الباب الخشبي هذه المرة لسبب لا أدركه، فضلت ان اهتف:- "سلام عليكوا (عليكم).. حاج؟.. يا حاجة؟.. احنا الدكاترة بتوع القافلة". لم اسمع ردا إلا..، لا.. لا اعتقد.. الأرجح انها كانت صوت الاطفال بالخارج و هم يلعبون. لا أعتقد ان صوت الضحكة المائعة ثم كلمة "اصمت" بالصوت الخشن موجهة لي أو صادرة عن البيت اصلا!! على أية حال هذا يكفيني الان هو وقت الرحيل.. توجهت للباب الحديدي مرة اخرى لاسمع صوتا لم اسمعه منذ سنين. صوت أمي الهاديء وهي تهمس بصوت مرتفع كفاية أن يصلني فقط صادر من داخل البيت: "أحمد.. أنت رايح فين؟.. حتسيب ماما تاني؟" ما هذا العبث؟!! أمي توفيت، منذ بضعة سنين! كيف بحق السماء اسمع صوتا يعود لشخص ميت؟! نظرت للخلف بسرعة فلم اجد شيئا بالطبع، توجهت بخطى سريعة للباب ودفعته ولكنه كان اقوى مما ظننت، بحثت عن نافذة او فرجة انظر منها ولكن -للعجب- البيت كان بلا نوافذ أصلا!! من صمم هذا البيت كان مصابا بوسواس الشك أو أراده ان يكون سجنا! اخذت اطرق الباب بعنف وجربت دفعه بكتفي لأرى بطرف عيني اعين فضولية للفلاحين ينظرون لي بدهشة ممزوجة بالتذمر لجرأتي على إثارة العفاريت ضدهم!! تراجعت بظهري و نظرت للبيت.. بدا مهيبا ومخيفا أكثر مما كان عليه منذ دقائق. شيئا بشيئا بدأت اشعر بنفس مشاعر الخوف التي ظهرت على وجه طارق منذ دقائق، خرجت من البيت وسط نظرات الدهشة والضيق من البيوت المجاورة واشرت لطارق ان يتبعني. اخرجت 5 جنيهات من جيبي ودسستهم في يد طارق الذي بدا مبهوتا بالكنز الذي يحمله لدرجة خففت الى حد ما صدمته عندما قلت له: "النهاردة الساعة 9.. حاقابلك عند المدرسة القديمة تستناني وحنيجي هنا بس.. وبعد ساعة كمان تعدي عليا وحنمشي على طول". نظر لي بتردد وسأل: "طب.. طب مينفعش تروح لوحدك يا داكتور؟" رددت بحدة: "طب واهل القرية حيقولوا ايه لما يشوفوني قاعد اتمشى في القرية لوحدي في ميعاد برة مواعيد الشغل؟!!.. اي واحد حيقابلنا حنقوله انك بتعديني على البيوت عشان نراجع لو في بيوت مش مرسومة في خريطتنا و لا لأ.. ده زائد انك كده مش حتاخد الخمسة جنيه" نظر لي و رد بسرعة: "لا لا.. أنا جاي".. داعبت شعره بيدي وتوجهت نحو فريق التوعية الخاص بي بعد أن خرج من البيت المجاور مع صوت الضوضاء والضجيج الذي تسبت فيه ثم توجهنا الى مكان تجمع الرحيل. أنا الأن جالس في الغرفة بكامل ملابسي وحقيبة صغيرة فيها سكين لفتح الباب رغم اني لا اعرف كيف وحبل لأنهم دائما ما يستخدمون حبلا في الأفلام ومصحف صغير. أنا أعلم أني لن أجد شيئا وغالبا سيكون هلاوس سمعية بسبب الحر. ولكني لن أسمح لنفسي أن اعود للقاهرة واتذكر اني تركت فرصة ذهبية لسماع صوت او رؤية امي مرة اخرى حتى لو كانت اشباح. من الممكن ان يكون هذا البيت ثغرة بين عالم الاشباح وعالمنا تمكننا من مخاطبتهم.. نعم.. نعم. سأحكي لها كل ما حدث منذ توفت. ستفرح جدا عندما تعرف أني في كلية طب. اعتقد انها تعلم بالفعل عندما رأتني في القافلة. ساقول لها أني افتقدتك، سأقول لها أني افتقدت صورتك وصوتك ورائحتك!! ماذا لو عرضت علي انا الحقها؟!! هل سيعتبر هذا انتحارا؟!! لا لا أظن أن "ماما" ستريد لي شرا أبدا لا في الدنيا أو في الأخرة. أنا أمسك القلم الان بصعوبة و يدي ترتعش من الاثارة.. "سلام.. لازم امشي حالا !!" أحمد فتحي الساعة 8:40 مساء طوى العقيد خالد الورقة ووضعها داخل كيس بلاستيكي و هو ينظر للشاب الواقف أمامه: "اذن.. انت لا تعلم كيف خرج دكتور أحمد من معسكر القافلة؟" رد الشاب و هو يرتجف: "لا يا سيادة العقيد.. من الممكن أن تسألوا طارق الطفل المذكور في الورقة. من المؤكد أنه يعرف أكثر منا". العقيد خالد: "لا يا دكتور محمود، لا أعتقد ان طارق في حالة تسمح لنا بسؤاله". دكتور محمود: "ماذا تقصد بالظبط؟" العقيد خالد: "لقد وجدناه في حالة صدمة عصبية ولا يستطيع الكلام قريبا على ما أعتقد، بالإضافة إلى أننا لا نعتقد أن طارق سيفيدنا بمعلومات تزيد عن رؤيته لدكتور احمد ميتا أمام البيت بعد مرور الساعة التي اتفقا عليها". دكتور محمود: "هل اقتحمتم البيت؟ ماذا وجدتم به؟" العقيد خالد: "لا شيء، بيت مهجور العناكب تسكنه،حتى الباب لم يحتمل دفعة واحدة ليسقط ترابا!!.. لا أثار اقدام على الغبار.. القضية كلها غريبة وخصوصا ان المتوفي كان بحوزته سكين وحبل ومصحف ويبدو كمن كان في طريقه لاقتحام البيت فعلا.. طريقة الموت هي سكتة قلبية أودت بحياته في ثوان". محمود: "اذن هو قضاء و قدر؟" العقيد خالد: "نعم؛ لا شبهة جنائية في الموضوع.. ولكن اغريب ان في حالات السكتة القلبية عادة ما تكون الضحية في حالة رعب من الألم وترتسم ملامح الخوف والذعر على وجهها.. ولكن في حالة دكتور أحمد كانت على شفتيه أبتسامة"! (ابتسامة)
يحيى رأفت * الكلمات بالفنط العريض بين قوسين هي تصحيح لبعض الأخطاء فقط.
التعليق: مادة القصة مادة جيدة، هذه الأسطورة الموجودة في كل مكان في العالم وإن كان العلم يحاول إخفاءها أو تجاهلها. في حين أنها محرك قوي لسلوك الكثير من البشر.
والمهم في القصة هو امتزاج الأسطورة العامة (البيت) والأسطورة الخاصة للراوي (العلاقة بالأم). وموت الراوي حدث جيد كنهاية للقصة. ما يعيبها فقط هو بعض الإطالة وخاصة في الجزء الأول، كما توجد بعض الأخطاء اللغوية.
د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة