في المسلسل السوري "نزار قباني" عبارة على لسان بطله الفنان تيم حسن، يقول فيه إنه يتمنى من الله أن يأتي يوم يجد فيه ثورياً تاريخه ليس قذراً! تلك العبارة المثيرة للتأمل، على ما فيها من مبالغة، يؤكدها الكاتب الإيراني "أمير حسن جهل تن" في روايته المتميزة "طهران مدينة بلا سماء". أمير حسن.. من الهندسة إلى الإبداع تعالوا أولاً نتعرف المؤلف: هو من مواليد سنة 1956، تخرّج من جامعة العلوم والصناعة، وعمل مهندساً كهربائياً، بدأ مشوار الكتابة مبكراً عندما كان طالباً جامعياً؛ فنشر مجموعتين قصصيتين هما: "صيغة" (1976)، و"دخيل على الشباك الفولاذي" (1978), ثم تبعهما بروايته الأولى "روضة القاسم" (1983)، التي حجزتها الرقابة عن الصدور لمدة 16 سنة، قبل أن تخرج للنور؛ ولكن قام الرقيب الإيراني بمنع إعادة نشر مجموعتيه القصصيتين سالفتي الذكر. له حالياً خمس مجموعات قصصية، وست روايات، وسيناريو فيلم، وعدة مقالات في مجلات فكرية إيرانية وألمانية، وسعى لإعادة تأسيس "مركز كُتّاب إيران"؛ مما جعل الأمن الإيراني يستهدفه؛ لحدّ التهديد بالتصفية الجسدية. رواية "طهران مدينة بلا سماء" خضعت لقسوة مقصّ الرقيب؛ نظراً لحساسية موضوعها، الذي سنستعرضه فيما يلي؛ ولكن النسخة المترجمة منها للعربية هي نسخة ما قبل الرقابة، لحسن الحظ.
رواية تنقل لنا إيران أخرى كأننا نقرأ رواية عربية الأحداث؛ بل ومصرية أيضاً، لشدة تشابه ما فيها مع الواقع السياسي والاجتماعي العربي. في روايته، ينقل لنا أمير حسن إيران أخرى، غير تلك النمطية الصورة التي لا تخرج عن بلد يعيش تحت وطأة آيات الله المتجهمين بلحاهم الكثة وأرديتهم السوداء الفضفاضة، ولافتات الهتاف للحسين وعلي، والإيرانيات المتّشحات بالسواد، ومساجد طهران وأصفهان، وقُم ذات الطُرُز الفريدة. تنقلنا الرواية -التي تبدأ أحداثها في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين، بطريقة Flashback إلى إيران ما قبل الثورة الإسلامية، على جناح ذكريات بطلها "كرامت"، رجل الأعمال الثري الذي يعيش منتصف العمر، والمسئول عن أحد السجون "الثورية"؛ برغم أنه قبل الثورة لم يكن ثورياً، ولا متمرداً؛ بل كان -بكل بساطة- بلطجياً ورجل عصابات!
حكاية الفتى "كرامت" لم يكن سوى صعلوك متشرد، عاش على هامش المجتمع، قاسَى الفقر والجوع، ذاق العجز وانعدام الحيلة، وهو يرى أمه تُغتَصَب من ضابط إنجليزي في زمن كانت بريطانيا تفرض فيه وصايتها على جنوبإيران، وتعرّض هو نفسه للاعتداء وهو طفل، ندوب في الروح أنتجت ما عليه "كرامت" الذي عرفته الشوارع الخلفية للطهران بعد ذلك، وهو فتى ضخم البنيان، تزيّن الوشوم عضديه، يفتح قميصه إلى أسفله لتظهر سلسلته الذهبية الغليظة، وفوق كتفيه يضع معطفاً كالحرملة، ويُدلّي حافة قبعته الغربية على أعلى وجهه، بطريقة آل كابون. عرفه البلطجية رفيقاً لهم وزعيماً، عرفته بائعات الهوى عشيقاً فظاً وفحلاً مزهواً بفحولته، عرفه البائعون "قبضاياً" يفرض سطوته ويترزق منها، وعرفته دوائر أمن الشاه خادماً مطيعاً لها, يقبض مقابل أن يتسلل مع رفاقه لمظاهرات الشيوعيين ليثير الشغب؛ مبرراً بذلك التدخل الأمني العاتي، ومشاركاً الأمن في ضرب وترويع المتظاهرين، ولا بأس من خدمات من نوعية مهاجمة هذا المقر الحزبي أو ذاك.. وتألّق أداؤه بشدة خلال ثورة رئيس الوزراء الوطني "مصدق" ضد نظام الشاه الموالي للغرب.. هذا هو "كرامت" أو كما ينادَى "كرامت خان". "جئتُ من هناك؛ ولكنني على أية حال وصلتُ إلى هنا" هكذا يعبر "كرامت خان" عن نفسه، وهو يتأمل صف السجناء معصوبي الأعين يمرّ أمامه؛ ولكن كيف وصل من "هناك" إلى "هنا"؟ عبر حياة حافلة بالفساد المادي والمعنوي في عاصمة لا تعرف الرحمة -وكل العواصم كذلك فيما يبدو- يشقّ "كرامت" طريقه؛ حتى يصبح من أشهر خُدّام دوائر الأمن التابعة للشاه، تعرفه المظاهرات مُفسداً ومخرّباً وعدواً للمعارضين؛ حتى يترقى وتعرف رزمات المال طريقها لجيوبه، يصبح رجل أعمال كبير برغم عدم قدرته على التخلّي عن سوقية وفظاظة صاحبيه منذ الصِغَر.. أي أنه يتحول لبلطجي بدرجة رجل أعمال. ويأتي المنعطف عندما تحلّ الأيام الأخيرة للنظام الشاهاني، وتزداد شراسة ووحشية الأمن في قمع المتظاهرين، يرى "كرامت" الشاه في التلفزيون متأنقاً مع صديقه الرئيس الأمريكي كارتر؛ بينما رصاصات أمنه تمزّق صدور الشباب المعارض، وتمزّق معه مشاعر "كرامت" الذي يُفسح شيطانه المجال للحظة، يعود فيها ذلك الإنسان الذي عانى القهر؛ فيربط القهر بينه وبين أولئك الشباب، ويجد نفسه يقف في صفهم، يسارع بالتبرع بالدم لحدّ المخاطرة بحياته، وينتظرهم على أبواب السجون بالحلوى والورود. "كرامت" هو كرامت لكن لا يُخدَعَن القارئ بلمحة الإنسانية العابرة تلك؛ ف"كرامت" هو "كرامت"، ما جرى هو أنه أحس -بحس التاجر الذي اكتسبه مع الوقت- أن الزمن لم يعد زمن "الفهلوة" و"الشطارة" والبطلجة؛ بل صار زمناً جديداً يحتاج ل"كرامت" جديد، يرضى عنه النظام القادم، فقط كان تأثره العابر بمثابة "ضحك على نفسه"؛ ليريح ضميره من منافقة السادة الجدد بدعوى تأييده لثورتهم على الفساد، كما كان يريحه من قبل من اللوم على ممارسة العنف والطغيان؛ بدعوى أن الحياة غابة لا تفهم سوى لغة القوة. والتقط السادة الجدد الإشارة؛ فصار من المَرضي عنهم، واستغلوا مواهبه في قمع المعارضين؛ فجعلوه مسئولاً عن أحد سجون نظامهم الديني؛ حيث المُعارض إما كافر أو فاسق أو منافق، وفي النهاية هو لن يفعل سوى ما كان يفعله من قبل؛ فأمس كان يستهدف الشيوعيين واليوم أيضاً هو يستهدف الشيوعيين. "لا!لم أتغير! طيلة هذه الخمسين سنة، أعطيت نفسي للنكاح فقط، لأولئك، لهؤلاء، وأنا أعطيها لهم الآن أيضاً! ينبغي أن أعطيهم جميعاً!". بهذا يُعلن بطل الرواية موقفه لإحدى عشيقاته السابقات، صارخاً بعد أن استفزّته بقولها: إنه لم يتغير.
رواية بِلُغة أوباش المجتمع من أهم ما ميّز العمل لغته؛ فالمؤلف حرص على نقلنا للعالم الإيراني بكتابته الرواية بلغة عوام المجتمع في المشاهد التي كانت تضمّ البطل "كرامت" بأوباش المجتمع، والمترجم قام -مشكوراً- بالحفاظ على مستوى اللغة عند الترجمة؛ خاصة فيما يخصّ المصطلحات الشعبية الإيرانية، والتي تطلّب شرحها منه مُلحقاً بآخر الكتاب به 208 توضيحاً لمعاني تعبيرات، أو مرادفات لكلمات إيرانية شعبية قحة.. وهذا مما أضاف للعمل بُعداً إنسانياً فذاً يستحق الإعجاب.
والمؤلف أجاد كذلك في مزج أهم مكونين للعمل: الجانب الشعبي والجانب السياسي، بشكل يتوقف عليه كثيراً مثل تلك الأعمال؛ ولكنه أجاد عمل ذلك بحِرَفيّة جعلتهما يتوافقان ويتكاملان؛ ليُخرج لنا العمل متناسق الأركان؛ فلا نشعر في مشاهد تَمَاس السياسة بالثقافة الشعبية أن ثمة نشازاً بينهما؛ بل إن القارئ يُدرك أن كلاً منهما يكمل الآخر ويتفاعل معه بإيجابية؛ حتى إنه -القارئ- يحار بعد القراءة: هل هذا عمل سياسي أم هو أدب شعبي؟ فيختلف التصنيف؛ فبينما صنّفه الرقيب الإيراني -ضمنياً- بأنه عمل سياسي، ورشّحه هذا ليكون ضحية للمقصّ الرقابي العتيد؛ فإن القارئ غالباً ما يصنّفه كأدب إنساني لعمق المحتوى الإنساني فيه، وفي مثل تلك الأحوال.. يكون الاختلاف دليلاً إضافياً على ثراء العمل وقيمته.