"إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كبيراً بشرط واحد، هو أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم.. أن يُطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم.. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدّموا دماءهم فداء لكلمة الحق.. إن أفكارنا وكلماتنا تظلّ جثثا هامدة؛ حتى إذا متنا في سبيلها أو غذّيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء". [الدكتور عبد الله عزام]. لم أجد أصدق من هذه العبارة لوصف الشهيد سيد قطب، الذي لم يختلف على شهادته اثنان من أقطاب الأمة الإسلامية؛ مهما رأوا له من سقطات، ومهما كانت بعض كلماته منهاجاً متطرّفاً لبعض من لم يُنزلوها منزلها من نفس وفكر كاتبها. كانت فورة الحق في نفسه أكبر من أن تغريه الدنيا ببريقها وشهرتها، فكان كمن أبصر نبع ماء في صحراء جرداء فأقبل ينهل منه غير مبالٍ بسباع السياسة ومخاطر المجتمع المتربّص؛ فجاءت كتاباته خالصة من قلب طاهر يدعو إلى الله العلي القدير، وينشد كل تطهير وتزكية، ويبغي من أمته أن تشعر ما يشعره من خلاص الروح والاستسلام لواحد أحد ديّان، يقول إنه "تربى في مسارب نفسه الخوف من اليوم الآخر". وهذا هو سبيل مرهفي النفس ذوي الروح المحلّقة في جنبات الكون لا يحدها شيء، ولا يحول دون أحلامها حائل.. وكيف لا وهو الأديب المفوّه، والشاعر الرقيق، والمفكر المتفلسف، والناقد الثاقب، الذي قال عنه نجيب محفوظ في كتابه "المرايا": "لو بقي هذا الشاب على كتابة النقد لكان أفضل ناقد في عصره".. يبصر بعين روحه ويتلمس ببصيرة عقله. أديب وناقد وداعية وُلِد الأستاذ سيد قطب في قرية موشة من قرى الصعيد سنة 1906.. درج في مراحل الطفولة الأولى في قريته، ثم انتقل إلى القاهرة، وواصل في دار العلوم، وكان يكتب في عدة مجلات أدبية وسياسية منها "الرسالة" و"اللواء" الاشتراكية، وقد كتب عنه أستاذه "مهدي علام" في تقديمه لرسالة "مهمة الشاعر في الحياة" -التي ألقاها سيد قطب كمحاضرة في دار العلوم- يقول: "لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سروراً وقناعة، ويعجبني فيه جرأته الحازمة التي لم تسفه فتصبح تهوراً، ولم تذل فتغدو جبناً، وتعجبني فيه عصبيته البصيرة، وإنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم". عمل مدرسا حوالي ست سنوات، ثم شغل عدة وظائف في الوزارة.. وفي الأربعينيات تولى رئاسة تحرير مجلة "الفكر الجديد"، وقد بدت نزعته العدائية للملك فاروق كأستاذه العقاد، وكان مجاهراً في نقده اللاذع؛ حتى دسّوا له من يطلق عليه النار؛ فأخطأه الرصاص. تتلمذ أدبياً وفكرياً على يد العقاد، وكان يتردد على طه حسين، وحمل لواء المعارضة ضد مصطفى صادق الرافعي. عرف الأستاذ سيد بمعارضته للأنظمة الحاكمة الفاسدة الملكي منها والجمهوري، ثم انضمّ لدعوة الإخوان المسلمين سنة 1951؛ فبدأ يتّجه من الكتابة النقدية والفكرية السياسية للكتابة عن الإسلام العام، ولم يكن سيد بعدُ قد أدرك أعماق هذا الدين، فكتب كتاب "العدالة الاجتماعية" مستعرضاً نظام الحكم والمال. ثم تولى رئاسة تحرير جريدة "الإخوان المسلمون"، وكتب بها مقالات صدرت فيما بعد في كتاب أسماه "دراسات إسلامية". ثم بدأت سلسلة المحن تتوالى، فتمّ اعتقاله وأودع السجن الحربي؛ بسبب ما جاء في كتاباته من هجوم على النظام، وخاصة ما جاء حول مصطلحي "الجاهلية" و"الحاكمية"؛ التي أساء النظام فهمها، وأساءت بعض الحركات الإسلامية تناوله وتنفيذه -كما سنوضّح لاحقاً- حتى حُكم عليه بالإعدام سنة 1966. بين شقّيِ الرحى وقع الأستاذ سيد قطب بين فكي الحكومة وبعض الجماعات المتطرفة؛ فنال من متناقضات الاتهام ما ناله من أنه مكفّر يثير الشباب بالخروج على الحاكم وقتال المجتمع المسلم، وأنه رائد جماعات الجهاد، وأخرى بأنه مبتدع قال في كتاب الله وفي الدين ما ليس فيه، وأنه متجاسر على الصحابة وشاتم للرسل والأنبياء، ومنهم من وصل به الأمر لتكفيره.. فأي الفريقين أصاب الحق؟ حقيقة إن تناول الأستاذ سيد قطب للقرآن الكريم كان تناولاً رقيقاً من الناحية الأدبية الموضوعية يراه كنصّ واحد ووحدة واحدة، فكان من أوائل الداعين للتفسير الموضوعي؛ لكن عباراته وألفاظه غلب عليها الأسلوب الأدبي واستخدام المجاز والتشبيهات والصور والاستعارات، وهذا يختلف عن لغة المفسّرين؛ ولذلك فقد أشكل على كثير من قارئي كتابه "في ظلال القرآن" حول تفسير القرآن؛ ففهموا من عباراته غير مضمونها، بل ربما عكسه تماماً؛ فرموه بالتطاول على القرآن والأنبياء والصحابة. ولذلك قال عنه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز -مفتي الديار السعودية- مبرئاً له: "والكتاب له أسلوب عالٍ، هذا الأسلوب قد يظن بعض الناس في بادئ الأمر من بعض العبارات أن فيها شِركاً أو أن فيها قدحاً في الأنبياء.. ولو أعاد القارئ النظر في العبارة لوجدها أسلوباً أدبياً راقياً عالياً؛ لكن لا يَفهم هذا الأسلوب إلا من تمرّس في قراءة كتابه.. والكتاب لا يخلو من ملاحظات كغيره، ولا يخلو من أخطاء؛ لكن في الجملة أن الكاتب كتبه من منطلق غيرة وحمية على الإسلام". أما عن تهم التكفير التي حُمّل رايتها؛ فكانت بسبب مصطلحي "الجاهلية" و"الحاكمية"؛ حيث حوت كتاباته وصفاً للمجتمع بأنه جاهلي؛ لأنه يترك العمل بالشريعة الإسلامية في معاملاته ويحكم بغير ما أنزل الله في الشرع الحنيف؛ فقال: "لا يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً إسلامياً ما لم يطبق الشريعة، وإن صلى وصام وترك الناس يعبدون الله في المساجد والكنائس".. ومن هنا أخذ الناس طرفي النقيض في هذه العبارات؛ فاتخذته بعض الجماعات "الجهادية" ذريعة للخروج على الحكّام وتكفير المجتمعات الإسلامية، واتخذه النظام ذريعة لاعتقاله ثم إعدامه؛ لأنه يشكّل خطراً على الأمة وعلى الحكومة؛ حتى إن جماعة الإخوان المسلمين تبرّأت من تلك الأفكار، وعارضتها، وردّ عليها المستشار حسن الهضيبي -المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها- في كتاب "دعاة لا قضاة". وخير ما يقال في ذلك أن الأستاذ سيد قد ظُلِم حين ألبسه المجتمع ثوب الفقيه، فصارت نظريته نظرية فقهية، وبها سقط في هُوّة التكفير، وهذا تماما ما حدث مع الدكتور مصطفى محمود ونصر حامد أبو زيد وطه حسين؛ حينما صُنّفت أفكارهم كمبادئ فقهية، وما هي إلا خلاصة تفكّر وعصارة قراءات. غير أنه ما من شك في إخلاصه للدين وللأمة، وأنه بريء من دعاوى الخروج على الحاكم والمجتمع الذي دعاه بالمجتمع الجاهلي -مما اتخذته بعض الطوائف ذريعة في محاربة المجتمع المسلم- فلم ترد عنه أية دعوة من قريب أو من بعيد تدعو لقتال هؤلاء بوصفهم كفاراً؛ بل كان كل حديثه يدور على التعامل مع المجتمع الجاهلي بالدعوة ومواجهة الحجة بالحجة؛ وهو ما جاء في كتاباته وفي دعوته. تفسير "في ظلال القرآن" لسيد قطب في إحدى ترجماته سطور من نور أثرى أستاذنا المكتبة العربية بالعديد من الكتب، وغزا القلوب قبل العقول بنور الحق الذي شعره فلم يبخل به، فصبه في قلوب الناس من بعده؛ كي يقرأوا ويسمعوا ويستعذبوا قول ربهم ونبيهم. صدرت له عدة مؤلفات نقدية وأدبية وإبداعية أثرت المكتبة العربية وأخرى فكرية ودينية، وهو أغنى من أن يجمعه مقال؛ فآثرنا أن نأخذ منها شذرات: - ففي الأدب كتب: " المدينة المسحورة"، "أشواك"، "النقد الأدبي أصوله ومناهجه"، "كتب وشخصيات". - ودينية: "مشاهد القيامة في القرآن"، "التصوير الفني في القرآن الكريم"، "في ظلال القرآن"، "دراسات إسلامية". - فكرية: "معركة الإسلام والرأسمالية"، "معالم في الطريق"، "في التاريخ فكرة ومنهاج". في ظلال الحق لا يختلف اثنان على شهادته من منطلق غيرته على الحق وصموده على كلماته وأفكاره أمام الموت بغية رفع راية الحق وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، والقتال هنا هو القتال بالنفس والقلم؛ مهما جاءت الملاحظات على هامش بعض أفكاره. كان سيد قطب جريئاً أثناء محاكمته القصيرة، والتي مُنع محامون أجانب وممثلو هيئات الدفاع عن حقوق السجين من المرافعة عنه فيها، ونفّذ الحكم صباحاً قبل حضور وفود من الدول العربية تشفع لتخفيف الحكم، وفي الوقت الذي حاول ملك السعودية التوسط لدى عبد الناصر بالعدول عن إعدام سيد قطب، ولكن عبد الناصر رفض وبادر بنتفيذ الحكم قبل أن يتم تصعيد الأمر على المستوى الدولي. وفي ليلة تنفيذ الحكم طُلب منه أن يقبل بالمساومة والاعتذار ويقول بعمالته للمخابرات الأمريكية؛ أو يكتب كلمة تأييد للنظام الذي اتهمه بالعمالة، فكانت إجابته الشهيرة: "إن السبابة التي تشهد لله في الصلاة بالوحدانية لا يمكنها أن تكتب كلمة تأييد لطاغية".. ورفض أن يتنازل عن كلمة حق قالها.. وتوجّه إلى منصة الإعدام شامخاً؛ فوضع بنفسه الحبل حول رقبته وقال: "رب إني مغلوب فانتصر". يُحكى على لسان الشيخ عبد الحميد كشك أنه في يوم إعدامه "جاءني النبي صلى الله وسلم على فرس؛ فنزل عنه، ثم مد يده فصافحني، وقال لي: هنيئاً لك الشهادة يا سيد". قال عنه محمد الفاضل بن عاشور: "الشهادة في سبيل الله هي أقصى ما يتطلّع إليه أصحاب النفوس الإسلامية المؤمنة المطمئّنة، فهنيئاً له بما رزقه الله من مقام الشهادة، ونرجو الله أن يجزيه أجر العاملين المستشهدين في سبيله". واعتُقِلت أخته التي كان يرسل لها برسائله وهو في السجن؛ وعُذّبت وسُجنت عشر سنوات بعد موته، وكان مما كشفت عنه بعد وفاته رسالته "أفراح الروح" التي تنبّأ فيها بشهادته، فقال في بعض سطورها: "بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات.. والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه".