كلما قرأت خبرًا عن القبض على بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين خارج الساحات التي يقدم شبابها دماءهم على مذبح مطامع الجماعة أو يفسدون خاتمتهم، وصحف أعمالهم بقتل وإصابة وترويع الآمنين، وكلما رأيت في هؤلاء الشباب بيادق شطرنج يُطاح بأجسادها في جنبات رقعة اللعبة حمايةً للملك والوزير والفيل؛ في حين أن الملك والوزير والفيل يُتَضَح أنهم قابعون مستترون خارج الرقعة من الأساس، تذكرتُ قول الله تعالى في الآية الخامسة والسبعين من سورة يس؛ فيمن ارتضوا لآدميتهم أن تنحني وتخضع لأصنام لا تنفع ولا تضر "لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جندٌ مُحضَرون" (راجع تفسير الطبري). فلا خير في قائد يختفي وراء المتاريس تاركًا جندَه نهبًا للخطر، ولا خير في جماعة ارتضت سياستها لكبرائها التستر في الأبراج العالية ولقواعدها مواجهة الموت، تُباع أرواحهم للردَى وتُتاجَر بجثثهم بعد القتل، وإنني لأرتاع من حقيقة أن هذه الجماعة كانت لمدة عام كامل تتحكم في دفّة الوطن وأنظر للمشهد بحسرة متسائلا: لماذا لا يثور هؤلاء الشباب على من اتخذوا من أنفسهم كهنة وجعلوا من شبابهم قرابين لكراسي الحكم؟ تُحسن تلك القيادات انتقاء وضرب أمثلة الجهاد من قصص العظماء أمثال خالد بن الوليد وصلاح الدين وقطز، وتُسيء الفعل إذ تقع في الغش بضرب أمثال لا تطبقها على أنفسها فيحق عليها قول الله تعالى "كبر مقتًا أن تقولوا ما لا تفعلون"! والله لقد بُحت أصواتنا في تحذير شباب الإخوان أنهم يضيّعون زهرات شبابهم لأجل قيادات شاخت، ترمي بهم لأتون المعركة وتحشدهم لدعم وتأييد قرارات أغلبها تم الحشد له قبل أن يُعلَن أصلًا، بالله كيف يقبل إنسان ذو عقل وكرامة أن يُفعل به هذا؟ وما يثير العجب والغيظ معًا أن بين هؤلاء الشباب كثير من ذوي العقل والثقافة والإدراك والروح الإيجابية، ويحار المرء في تفسير هذا التناقض متسائلًا: أليس منكم رجل رشيد؟ لقد كنتُ -وما زلتُ- دائما أقول لأصدقائي من شباب الإخوان "إن مشكلة جماعتكم أن الثورة لم تصل إلى داخلها".. أجل.. فالثورة المصرية لم تقف عند الشوارع والميادين بل تسللت لمختلف المؤسسات فرأينا الموظف البسيط الذي كان مثالًا للرضا البالغ حد الخنوع يثور على إداراته ورؤسائه إن شعر ظلمًا أو تعسفًا، ورأينا على مستوى الأحزاب والحركات السياسية حراكًا من كثير من أعضائها ضد قياداتها إن لمس منهم انحرافًا أو ديكتاتورية -والمتأمّل في أحزاب كالدستور ومصر القوية وتكتلات كالتيار الشعبي يلاحظ هذا- بل وبلغت الثورة البيوت المصرية ومحيط الأسرة فصار الأبناء أكثر تمردًا في مواجهة تسلط بعض الآباء.. فكيف لم تنتقل تلك الجذوة إلى صفوف شباب جماعة الإخوان المسلمين؛ رغم أن خطر رعونة قياداتها قد بلغ حد تهديد الحياة لأعضاء الجماعة ومؤيديها ومعارضيها واللا منتمين بل وحياة الوطن كله؟ فأي دوافع أقوى من تلك ليثور شباب الإخوان؟ عندما طرحتُ هذا السؤال ذات مرة على بعض شباب الجماعة قيل لي "إن هذا الخيار شديد الصعوبة لخشيتنا شق صف الجماعة وتفرقة كلمتها".. وماذا عن شق صف الوطن؟ كيف لا يدرك هؤلاء أن الجماعة والحزب هم جزء من الوطن؟ إلى هذا الحد تصعب المفاضلة بين شق صف الجزء أو شق صف الكل؟ هل من الصعب على المثقفين وقارئي التاريخ في هذه الجماعة أن يدركوا أن كل الجماعات والحركات والأحزاب هي العناصر المتغيرة في معادلة التاريخ المصري، وأن "مصر" هي دومًا العنصر الثابت؟ المشكلة هنا هي أن حركة التاريخ قد توقفت في الوعي الجمعي لأفراد الجماعة فاختصروا كلا من مصر والإسلام في أنفسهم، فصاروا لا يرون مصلحتهما إلا من خلال مصلحة الجماعة، وافترضوا تلقائيا أن أي تأثر سلبي لجماعتهم سيكون بمنزلة "نهاية التاريخ" للوطن والدين، وقد بدا هذا جليا في تفاعلهم مع حيازتهم السلطة، فذكّروني بقول أول الخلفاء العباسيين حين قامت دولتهم "ونحن الذين نلي هذا الأمر حتى نرده إلى عيسى بن مريم" -في إشارة لأبدية حكمهم- فاختصروا التاريخ في أنفسهم وخطّوا بهذا أسطر نهاية دولتهم وإن تأخرت. هذا التفكير الكارثي ربما يفسر هذا الانقياد الغريب من الشباب الإخواني لقياداتهم بشكل كارثي يلقي بهم إلى التهلكة، فقد أصبحوا لا يرون العالم المحيط والحياة إلا بمنظار إخواني ضيق؛ يجعلهم في حالة انفصال تام عن الواقع وبالتالي فقد أصبح من العسير أن يطبقوا على المعطيات والمتغيرات قواعد العقل والمنطق العامة بدلًا من القواعد التي وضعتها قياداتهم وحاصرت بها شباب الجماعة ماديا ومعنويا ففصلتهم عن المجتمع المحيط.. ما الحل إذن لتلك المعضلة؟ في رأيي المتواضع فإن الحل بيد كل من المشتغلين بالخطاب السياسي وعلم الاجتماع ليخرجوا علينا سريعا بخطة ناجعة لمعالجة تلك الأزمة، وإني لأطالب أصحاب القرار بتنظيم الحوارات والمراجعات الفكرية لمن يتم القبض عليهم من شباب الجماعة، وإذاعة تلك الجلسات إعلاميا لتكون بمنزلة نقطة البداية، علّ بعض من تبقت لهم بقايا عقل وتفتح للأفق يلتقطون منها ما يكسر فيهم حالة الركود الذهني التي تجعلهم يرون العالم من زاوية واحدة. ربما يبدو هذا الحل -بالذات لمن يؤمنون بالحل الأمني- بطيئا ولكننا نتحدث هنا عن مستقبل مجتمع كامل لا تقاس حياته بالأيام بل بالسنوات والعقود، ونتحدث عن مصير آلاف الشباب ممن لم تتجاوز مراحلهم العمرية الثلاثينيات والعشرينيات من العمر. ربما تكون هذه هي البداية لإقناع شباب الجماعة بالثورة والتمرد على سياسة قادتهم باعتبارهم مجرد قطع شطرنج على مائدة المصالح السياسية لبضعة أفراد يتعاملون بمبدأ "نحن الدولة ولا دولة سوانا".. وإني أدعو الله أن يلتقط شباب الجماعة هذه الرسالة وأن يدركوا أن ليس من خيار لهم إلا رفض ما يُفعَل بهم.. أو الهلاك.. لهم وللوطن الذي هم -شاء من شاء وأبى من أپى- جزء منه.