في ظل عالم تتسارع فيه الأحداث، وتتصارع بداخله الأفكار، لتختلف الرؤي، وتتعدد المفاهيم وتكثر المستجدات، يجد الإنسان نفسه محاصراً بقضايا متشابكة، ومشكلات تزداد عمقاً ووطأة علي نفسه. وفي هذا الوقت الذي تمر فيه بلادنا بمرحلة دقيقة، وتعيش لحظات فارقة من تاريخها الحديث يكثر فيه الجدل ويحتد النقاش حول قضايا خلافية يلجأ فيها كل فريق لطرح مجته التي يتخلها أحياناً حالات من الشد والجذب التي تبلغ حد النزال، أمام كل هذا نجد أنفسنا أمام مفترف طرق عديدة، ومرحلة تاريخية لم تتحدد معالمها بعد، بسبب عدم اتضاح الرؤية السليمة لدى الكثير من الشباب ممن قاموا بالثورة. ولأن الدين هو ما يضبط سلوك البشر، ويحدد معالم الطريق، كان علينا أن نطرح أمر المستجدات علي موازين الفتوي من خلال مفتي الجمهورية د. علي جمعة، أملاً في فك رموز المعادلات الصعبة وحل طلاسمها. - تموج البلاد بحالة من الفوضى التى لا تنتهي.. كيف ترون المخرج؟ الأمن مكون أساسي للحياة، وفقده بمثابة فقد الإنسان للماء و هو ما نجم عنه الفوضى، وإن من يعتدي علي حرمات الناس وأمنهم ويروعهم ليس عديم الدين أو الأخلاق فقط إنما هو شخص فاقد للإنسانية، يستحق كل أنواع العقاب، والأمن ليس سيادية الحكومة وحدها وإنما لابد من تكاتف الجميع مؤسسات الدولة والمواطن وأن يقفوا صفا واحدا ضد من يحاول أن يجهض أمنهم وعلي صاحب المطالب أن يتخلي بالصدق وأن يصدق هذا الشخص في استحقاقه ولا ننسي أن في تحقيق العدالة الاجتماعية ورفع الظلم وإعطاء الناس حقوقهم من أهم عوامل تحقيق الأمن؛ لذا لابد أن يتحقق ذلك من خلال خطوات مدروسة ومنظمة وجادة وفق جدول زمني بعيدا عن التظاهر والاعتصامات التي من شأنها أن تصيب الدولة بحالة من الركود. - وما المنهج الواجب التمسك به في ظل تنامي نشاط التيارات الإسلامية ؟ الوسطية والمرونة والتسامح بأفضل صورها في منهجية الأزهر الذي خدم المجتمع المصري طويلا ليس فقط من خلال إخراج علماء ومفكرين من الطراز الأول، بل أيضا إتاحة فرص التعليم للرجل والمرأة، مرسخا فيهم أخلاقيات الأمانة، والقيادة، والخدمة والعمل علي نشر رؤية متوازنة وموضوعية للإسلام تقوم علي المثل الموروثة المعترف بها، والمتشبعة بالعمق الروحي، وثقتنا كبيرة في قدرة هذه المؤسسة علي استعادة مكانتها التاريخية، وتفعيل دورها في عرض الإسلام في مصر والعالم الإسلامي. تنبيء نتائج انتخابات مجلس الشعب عن ارتفاع أسهم التيارات الإسلامية علي الساحة السياسية .. فما تقييمكم للمشهد؟ من الطبيعي أن تري صعود تيارات دينية وغير دينية علي الساحة السياسية في ظل حرية التعبير التي تتمتع بها البلاد في أعقاب ثورة يناير، والاختلاف بينهم هو ظاهرة صحية لكن نحن نري أن يتم كل هذا في إطار التعبير السلمي عن الرأي والبعد عن التشدد والعنف، لذا يجب علينا جميعا أن نتنبه لدعوات إغراق الوطن في القضايا الجزئية والهامشية، ولا بد من التركيز علي قضايا الرئيسية في البناء والتنمية، أدعو الجميع إلي أن يتعرف علي المنهج الوسطي ورسالة الأزهر الشريف، من أجل توحيد الكلمة وتحقيق صالح البلاد والعباد. - تدخل مصر انتخابات رئاسية حقيقية في أبريل المقبل.. كيف ترون الشروط الواجب توافرها في الرئيس المرتقب؟ يقف الشعب المصري اليوم أمام "مسئولية تاريخية" تجاه اختيار رئيس للبلاد، ومن هنا فإن علي المصريين ضرورة التدقيق في الاختيار وترشيح الأفضل والأصلح وصاحب الكفاءة حتي تعبر البلاد إلي بر الأمان، وأيضا عليهم أن يراعوا معايير الاختيار التي ترتكز علي ما أشار إليه القرآن الكريم: "إن خير من استأجرت القوي الأمين"، وقوله تعالي علي لسان سيدنا يوسف عليه السلام: "اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، فالأمانة والعلم والقدرة علي فهم طبيعة المرحلة، والبرنامج الذي يراعي المصالح العليا للوطن. - وما موقف الاسلام من الدولة المدنية التى لطالما تعالت الاصوات للمناداة بها؟ تعبير الدولة المدنية غير موجود في أدبيات الفلسفة الغربية نفسها، و في علوم السياسة عندما يقول أحد "دولة مدنية" في السياق المصري فإنه يقصد بذلك الدولة الحديثة الوطنية وهي التي تتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وهي النموذج المثالي للدولة المصرية، وهذا المفهوم ليس حديثاً بل كان عرفناه قرن ونصف القرن في عهد الخديو إسماعيل، وفي هذا النموذج تكون الدولة دولة دستور ودولة مؤسسات، ولها مجلس شعب منتخب وقوانين، وتحتوي علي هيكل قضائي وإداري، إذا نحن نتبني نموذج الدولة المدنية التي تتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ولا تتعارض مع الحكم الإسلامي. - أطلقتم منذ سنوات قليلة مبادرة كلمة سواء لرأب الصدع بين أصحاب الديانات المختلفة.. ما مصير المبادرة حاليا؟ أطلقت المبادرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، تدعو إلي حب الله، والجار، والبحث عن القواسم المشتركة من واقع القرآن والكتاب المقدس، وتدعو إلي قيام مشروعات مشتركة بين المسلمين والأقباط، وتتميز بالتنوع والتكامل وتتفق وطبيعة الواقع المتغير، إضافة إلي أنها تضع أرضية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين ليكونوا أخوة متحابين سواء علي الصعيد الدولي أو المحلي، وهذه المبادرة تقدم الحلول لعلاج المشكلات مع الآخر وإزالة أي نوع من الاحتقان الطائفي، وإذا كانت هناك بعض المعوقات التي وقفت في طريق المبادرة فأعتقد أنه قد حان الوقت للعمل بها علي أرض الواقع . - تزايد المد الشيعي منذ اندلاع ثورة 25 يناير، ما مدى الخطر المرتقب من هذا الامر؟ لم تكن الخلافات بين السنة والشيعة طوال تاريخهما دينية قط إن الفوارق بين الشيعة والسنة تقتصر علي الفروع فقط وليست في الأصول، فالجميع يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الخلاف تاريخي سياسي وليس عقائديا، وإن الخلافات بين بعض مذاهب أهل السنة لا تقل عن الخلاف مع المذهب الجعفري، وإن الأزهركان الجامعة السنية الوحيدة في العالم الإسلامي التي تدرس المذهب الجعفري، وهناك تراث لدي المصريين في محبة آل البيت، وهم ليسوا محملين بأي عقد تاريخية معادية للشيعة، ولا أرى خطرا داهما للمد الشيعي علي المصريين، فمصر بلد الأزهر سنية حتي النخاع. - تمر مصر اليوم بمفترق الطرق .. كيف تنظرون لمستقبلها؟ مستقبل مصر يتعرض لاختبار صعب علي المستوي السياسي والاقتصادي، لكن الإرادة الجمعية للشعب المصري مصممة علي تخطي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن، وعلي الشعب كله أن يتكاتف و الوقوف أمام هذا الخطر وتخطي المرحلة الحالية بالعمل الجاد علي كل المستويات وإغلاق كل أبواب الفتنة والمشاركة البناءة في مختلف مناحي الحياة وعدم السماح لأي شخص بتزوير إرادتهم، وأري أن هذه الآمال ستتحقق في أقرب وقت إن شاء الله تعالي. - وفي رأيك ما دور رجال الدين و الدعاة وسط زخم الحراك السياسي الكبير الحالي؟ عالم الدين ينبغي أن يظل بعيدا عن السياسة بمعناها الحزبي الضيق، وأن يترك الاختيار للشعب، فلابد أن يظل عالم الدين ملكا لكل الأطراف، وأن يضطلع بدوره في توعية الجماهير وقيادتها نحو ممارسات صحيحة، تتفق والقيم العليا، لتحقيق مصالح الفرد والمجتمع، وفي هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد فإنه ينبغي علي العلماء والمفكرين السعي جاهدين التحقيق وحدة الصف الإسلامي التي تعتبر فرضا من فروض الدين، وأساسا من أساساته وخاصة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة حاليا حيث يتربص بها الأعداء ويسعون ويحاولون فرض روح الشحناء والتفرقة والنعرات الطائفية بين أبناء الدين الواحد، ليتحقق لنا ذلك إلا من خلال الحض علي تعاليم الإسلام السمح، واتباع أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلي الله وكيفية العيش مع الآخر وتقبله واحترام عقائده