هذه المغامرة ضمن هذا التصور هي الشهادة على عدم سكونيّة الأديب، ورفضه الدائم للثبات. ولا يتأتى هذا في التفكير المسبق والنِيَّة المبيتة على تنفيذه، أو محاولة تنفيذه، وإلاّ لكان فعلاً مُصطَنَعاً مفبركاً تستطيع أن تسمع احتكاك مفاصله بعضها ببعضها الآخر!. إنه الفعل التلقائي لتلقائيّة التفاعل بين ذات الفنان والحياة. وهي، في هذا الشأن، الاستجابة الفنيّة في حيّز اكتمالها على الورق. أي: هي تأتي هكذا رغماً عن الفنان (بمعنى، بعيداً عن التخطيط المُهَنْدَس لها)، فتكون بدورها الشهادة على انتقاله من زاوية رؤية فنيّة إلى زاوية أخرى يرى الحياةَ منها أكثر عُرياً.. وأكثر حياة. بذا، وبكل السلاسة، وبكل الهدوء، وبكل العفويّة، يتدرج الفعلُ الإبداعي ليقدّم نفسه بقوة إقناع غير دَعيّة. وبالتالي، ليقدّم صاحبَهُ للقارئ من دون افتعالِ غُبارٍ، أو دربكة ، أو ضجيج! علينا أن نصل إلى هذه الحالة . ولكي نصلها، ولكي تمنحنا خصائصها، لا بُدَّ لنا من منح أنفسنا للحياة. لكُلّ الحياة تماماً. نمنح أنفسنا فُرَص التعّرف عليها، وعَيشها، ورصدها بِحِسّ الذي يتحرك في داخلها، وليس على شطآنها أو في غرفة المنارة على قمتها. قد يبدو كلامي الأخير يتضمن قدراً كبيراً من الوعظيّة، ومن الأكاديميّة التعليميّة، ومن المدرسيّة الكلاسيكيّة. هذا صحيح. لكنني أسجّله هنا لانتفاء ما ينفيه حين الاطلاع على كتابات الكثيرين في أدبنا المحلي. أو في كثير من الكتابات الأدبيّة المحليّة. كثيرون يكتفون بالمشاهدة. بمحاولة فهمها. بهندسة الفن فيها، ثم كتابتها!! فبماذا يخرجون؟ أيّ شيء: ربما وجهة نَظَر، ربما شخوص من الواقع، ربما تاريخ صحيح، وربما كل ذلك معاً. لكن الشيء المفقود دائماً، والمطلوب وجوده قبل كل تلك الأشياء، وبعد كل تلك الأشياء، هو: الفن. فالفن ليس الشكل الملموس في العمل الأدبي أو الفني فقط. ليس أدوات الفنان أو الأديب. ليست ألوانه، أو أسلوبه، أو لغته، أو طُرُق انتقالاته الفنيّة.. إلخ. إذا اكتفينا بذلك صُرنا صُنّاعاً للشكل الفني.. ولسنا بفنانين. الفن هو ذلك الملموس من ظاهر العمل الأدبي، وكذلك هو غير الملموس في الاستجابة الداخليّة عند القراءة. أي: المُعطى في الداخل. وحتّى يكون هذا لا بُدَّ من الروح ! أي: لا بُدَّ من الإيحاء بأشياء ما نكتبُ عنها. بالقدرة على نقل نبضها إلى أوردة وشرايين القارئ (حيوية الخيال ومنطق الاستنباط)، فيعيشها كاملةً. من دون ذلك لا حياة في العمل الفني - الأدبي. وبذا: لا فن في أي عملٍ يفتقر إلى ذلك. فنحنُ في النهاية، كما في البداية، نكتبُ، أو نزعمُ أننا نكتبُ فناً، وليس فكراً خالصاً، أو توثيقاً تاريخياً - اجتماعياً - شخصياً، فقط. @ @ @ مَرَّةً، أراني الصديق الفنان نبيل أليف، كتاباً مصوراً ملوّناً عن فنانين من عصر النهضة وما بعد تلك المرحلة. آنجلو، دافنشي، روبنز، غويا، آل غريكو. ثم اشارَ إلى صورة لوحة في إحدى الصفحات. ما رأيكَ؟ ، سألني. دققتُ فيها جيداً. مختلفة عمّا رأيت. ليست كالبقيّة. فسألته: - لِمَن؟ - ليس مهماً صاحبها أو اسمه. ما رأيكَ؟ وجدتُ نفسي أقول بلا تردد: - لم أحسُّ بها. لم أحسُّ بها أبداً.. ونظرتُ إلى نبيل. صمتَ قليلاً، وقال: - هذا نموذج لإيطالي عملَ متعهداً للكنائس والكاتدرائيات. يرسمُ جدرانها ويزيّنُ قِبابها الداخليّة. يملك الحِرْفيّة، وإتقان التشريح، والمهارة، وأسرار الألوان. سألته: إذَن، لماذا لم أتحسس شيئاً في عمله! فقال: لأنه متعهد، وليس فناناً.. فهمتُ لحظتها أنَّ الكتابةَ، كالرسم، لا تصل إلاّ بالروح. أي لا تكتمل إلاّ حين العمل فيها (كتابتها ورسمها) ونحن نعيش حالةَ تفاعُل تتضمن موقفاً، ووجهة نظر، ورؤية. أي: لا تصلُ إلى الآخرين إلاّ بها، وبذلك نتواصلُ حقاً؛ إذ لسنا أصحاب بضاعة نعرضها للطلَب.