تلميذ النحاس رفض تسلط القصر وهرب السلاح للفدائيين فى القناة محاكمة الباشا بعد 1952 تتحول إلى حفل تكريم واعتراف بوطنيته قاد معركة الكرامة فى الإسماعيلية ورفض تزوير السادات لتاريخ مصر انظر حولك ستراهم كثيرين، وجوه خائفة، وعيون مُتذللة ، وقامات مطأطئة تبحث عن لحظات رضا من رأس السلطة، أى سلطة وفى أى عصر. لكنهم قليلون هُم أولئك الذين يقفون شامخين لا يستمدون قناعاتهم إلا من الأمة. يغيبهم الموت فلا يغيبون، وتشوههم الاقلام فيبقون أجمل وأحب إلى الناس، يُساقون إلى السجن فلا يتزعزع إيمانهم بالوطن ولا يتذبذب اعتقادهم فى أن الحرية هى قدس الأقداس. منهم فؤاد باشا سراج الدين الذى يظل دائما حاضرا فى الغياب ، ساكناً فى قلوب المصريين، خالدا كرمز للاستقلال، صامدا كحصن للحرية والأحرار .15 عاما مرت على رحيل فؤاد سراج الدين، الباشا الذى أحبه الناس ورأوا فيه رمزا نادرا للأصالة والنُبل وقوة الشخصية . الباشا الذى نزل إلى البسطاء مُعبرا عن همومهم وأحلامهم منخرطا فى جلساتهم ومعايشهم عندما عبّر عنهم كنائب فى البرلمان قبل الثورة. الباشا الذى تولى وزارات المالية والزراعة ثم الداخلية فحقق انجازات عظيمة وترك بصمات واضحة. الرجل الذى أمد الفدائيين بالسلاح والمال لشن حروب استنزاف ضد قوات الاحتلال البريطانى ضاربا أفضل المُثل على وطنية المسئولية. الرجل الذى لم يتحول إلى الإرهاب عندما حلوا الحزب الأحب للناس وهو حزب الوفد وأقصوا زعيمه الجليل مصطفى باشا النحاس وأحالوه إلى العزلة وظل صابرا محتسبا فى تحضر وصلابة . الرجل الذى حاكموه بتهمة الفساد السياسى فانقلبت المحاكمة إلى حفل تكريم وكشف لمآثر عظيمة ووطنية خالصة اختص بها . الرجل الذى أعاد تأسيس حزب الوفد بعد غياب ربع قرن ووقف صلبا صامدا محفزا على الديمقراطية وداعما للحريات . الباشا . نموذج انسانى فريد لا يتكرر غيبه الموت فى 9 أغسطس سنة 2000 ، وكأنه اختار نفس الشهر الذى رحل فيه زعيما الوفد سعد باشا زغلول ومصطفى النحاس . 15 عاما مرت ودروسه فى الوطنية والاستقلال ودعم الديمقراطية تبقى شاخصة أمام المصريين مبرهنة علي أن الحرية هى الحل، وأن الاستقلال والوطنية والوحدة هى المبادىء الراعية لأى مشروع نهضة . الكتابة عن الرجل تفتح نوافذ الدهشة لذلك التجمع الغريب من القيم والقدرات التى صاغت نبلا وزعامة نادرة . ففؤاد سراج الدين حمل كثيراً من الصفات والسجايا التى أهلته لتحقيق دور تاريخى خلاق فهو باشا. سليل للارستقراطية ورغم ذلك متواضع . صديق للمقاهى الشعبية. مؤمن بالبسطاء والغلابة. ومع كل ذلك فهو تلميذ مثالى لمصطفى باشا النحاس، وسائر على نفس درب سعد زغلول ، وصاحب هامة المرفوعة دائما فى وجه الطغيان والاستبداد ، ورجل قادر على التعامل مع المواقف الصعبة ، والتجارب المصيرية . لم يعرف له موعد ميلاد محقق ، خاصة أن المصريين فى ريف مصر اعتادوا فى بداية القرن الماضى تسجيل مواليدهم بعد موعدها بفترة قد تمتد عدة شهور وقد تتجاوز سنوات فى بعض الاحيان ، لكن المتاح من معلومات يشير إلى أن سراج الدين ولد فى 1910 أو ربما قبل ذلك قليلا . كانت أسرته واحدة من ملاك الاراضى الزراعية فى بيلا بمحافظة كفر الشيخ لذا فقد تلقى تعليما متميزا تخرج على أثره عام 1930 في كلية الحقوق وعمل بعض الوقت فى مكتب النائب العام قبل أن يتفرغ لادارة شئون عائلته . كان فؤاد سراج الدين هو الامتداد الطبيعى لنبيل السياسة الأعظم مصطفى باشا النحاس . الجيل الثانى من وفديي مصر منذ توفدت ، فصار الوفد دين المصريين غير المنزّل فى الاستقلال والكرامة والنزاهة ، بل وأصبح الوثبة المبهرة فى تاريخهم نحو التحرر والفدائية والبناء. إن الروائى العظيم نجيب محفوظ يضع يده على ارتباط دراسة القانون بالوطنية فى ثلاثيته الرائعة عندما يختار فهمى بطل «بين القصرين» دراسة الحقوق للتعرف على حقوق مصر والمطالبة بها . وفى رواية « قصر الشوق» يحاول الأب دفع ابنه كمال عبد الجواد لدراسة الحقوق لأن هذا هو الدليل الأكبر على الوطنية . ليس لدينا تفاصيل واضحة حول نشاط فؤاد سراج الدين السياسى فى مدرسة الحقوق ، لكن ما يلفت نظرنا أن عمله بالمحاماة ومع النائب العام لخمس سنوات بعد تخرجه أكسبته قدرة فائقة على تحليل المواقف والحوار بموضوعية، فضلاً عن مهارات التفاوض والتداول والتشاور . ولاشك أن كل ذلك أهله أن يترشح لعضوية البرلمان ولم تتجاوز سنه الستة والعشرين عاما . لقد صاحب ذلك انضمامه إلى الهيئة الوفدية فى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى حيث كان الوفد هو مصر كلها على حد وصف نجيب محفوظ . إن حزب الوفد مثل اسطورة مصرية عظيمة . الوفد الذى دخل كل بيت وسكن كل شارع دافعا إلى نسج كثير من الحكايات الخرافية حول ذلك البناء العظيم الذى يساوى بين الوفد ومصر ، حتى أنهم زعموا أن الوليد ينطق « وفد» عند ولادته وأن التمر مكتوب عليه «زغلول» . فى تلك السنوات تابع فؤاد سراج الدين ، معارك النحاس باشا عن قرب، وتعلّم ثباته وصلابته وايمانه الراسخ بأنه لا بديل سوى الديمقراطية ، ولا حلم مقدماً على الاستقلال، ولا عمل سياسياً بدون شرف ونزاهة . شارك الشاب الطموح فى كافة المؤتمرات السياسية ، وبرع فى الخطابة ، وأظهر نشاطا واضحا جعله مهيأً للصعود الصاروخى داخل حزب الشعب الجماهيرى . لم يكن فؤاد سراج الدين مجرد نائب مجتهد ، أو عضو نشط وإنما كان كتلة من المواهب دفعته دفعا نحو الصفوف الأولى فى حزب الوفد وأهلته أن توكل إليه وزارة الزراعة فى مارس 1942 ولم يكن عمره وقتها يتجاوز 32 سنة . ولم تمض شهور قليلة حتى اضيفت له وزارة الشئون الاجتماعية ، ثم الداخلية . ولما عاد الوفد مرة أخرى للحكم بعد سبع سنوات عام 1949 اختير فؤاد سراج الدين وزيرا للمواصلات . ثم اختير فى حكومة الوفد الأخيرة عام 1950 وزيرا للداخلية بالاضافة إلى وزارة المالية . فى تلك التجارب المباشرة أظهر «سراج الدين» براعة وقدرة عظيمة فى انجاز كثير من منجزات مصر التى نجنى ثمارها اليوم . فمثلا كان أول من اصدر قانونا للعمال ، وقانونا للضمان الاجتماعى . كما اصدر قانونا لتنظيم هيئات الشرطة ، وامم البنك الاهلى المصرى الذى كان انجليزيا لصالح مصر وحوله إلى بنك مركزى مصرى خالص . والأعظم من كل ذلك دوره الرائع فى معارك الفدائيين خلال عامى 1951 و1952 ضد قوات الانجليز فى قناة السويس . لقد كان وزيرا للداخلية فى ذلك الوقت ومسئولا عن الأمن وساعد على تهريب الاسلحة إلى الفدائيين فى قناة السويس ، ولاشك أن ذلك كان سببا فى افراج حكومة يوليو عنه بعد سجنه عامين حرصا على دوره الوطنى فى دعم الفدائيين . وفى يوم 25 يناير عام 1952 تقدمت القوات الانجليزية نحو مدينة الاسماعيلية وطلبت من الشرطة المصرية تسليم أسلحتها ، واصدر فؤاد سراج الدين باعتباره وزيرا للداخلية قراره بعدم التسليم والدفاع عن أنفسهم وجرت معركة عظيمة استشهد فيها عدد من ضباط الشرطة وصار اليوم عيدا رسميا للشرطة . لقد اختير «سراج الدين» سكرتيرا عاما لحزب الوفد سنة 1949 ليدفع مع زملائه ضريبة الوطن والحرية حيث جرى اعتقاله عشرات المرات حتى رحيله خوفا من تأثيره وشعبيته وذكائه ، ففى1952 تم تحديد اقامته واعتقاله مرتين ، ثم اعتقل بعد حركة يوليو لبضعة أسابيع ، ثم اعتقل مرة أخرى فى يناير 1953 لمدة ثمانية أشهر وقدم للمحاكمة عام 1954 وحوكم استثنائيا وصدر ضده حكم بالسجن 15 عاما ، لكنه أفرج عنه بعد عامين . وفى اكتوبر عام 1961 اعتقل لبضعة اشهر ثم اعتقل مرة أخرى عام 1965 لمدة اسبوع ، وتكرر اعتقاله عام 1981 فى اعتقالات سبتمبر الشهيرة . وقد تعرض الرجل للمصادرة والاقامة الجبرية بسبب مواقفه الداعمة للحرية ، كما تعرض لمحاولات تشوية وتزوير متعمد شاركت فيها مختلف أجهزة الدولة بعد يوليو . والغريب أن كل ذلك لم يثبط من عزيمته لاستكمال دوره واعادة احياء حزب الوفد مرة اخرى ، واستغل اعلان الرئيس السابق السادات عودة الاحزاب فقدم أوراق حزب الوفد الجديد ومعه عدد كبير من العائلات الوفدية التى حرص طوال فترة الحظر السياسى على الاتصال بها . وعندما أعلن اعادة تأسيس حزب الوفد الجديد انضم أكثر من مليون عضو ، وهو ما آثار غضب وغيظ السلطات الحاكمة فأطلقت حملات تشويه متعمدة ضد رجال الوفد وقياداته . ولم يجد الرئيس السادات بدا من اصدار قانون العزل السياسى لحرمان قيادات الوفد من العمل السياسى وتحديدا فؤاد سراج الدين ورد الحزب بتجميد نشاطه . ووقف الرئيس السادات فى خطاب شهير له عام 1978 ليزوّر التاريخ ويدعى أن زعماء الوفد كانوا يضربون ب» الصُرم « بتعبير الرئيس الاسبق نفسه فى زمن الانجليز . ولم يصمت فؤاد سراج الدين ، ولم يتخاذل ، ولم يجبن وانما رد بقوة وحدة فى خطاب شهير مازال أرشيف رئاسة الجمهورية يحتفظ به . قال «سراج الدين « فى خطابه : « لقد نسبتم إلينا فى خطبكم وبياناتكم المتلاحقة صفات كثير مثل «السقالة»، «البذاءة» والرذالة ووصل الأمر الى أن ذكرتم فى خطابكم الأخير بجامعة الاسكندرية فى يوم 16 مايو بأن الانجليز كانوا يضربوننا بالصرم». ويرد سراج الدين على رئيس الدولة بعنف: «إننا ياسيادة الرئيس لم نكن من الرجال الذين يضربون بالصرم ..ومن يحاربون الانجليز فى معركة القناة فى عام 1951 ويطلقون الرصاص لا يمكن أن يضربوا بالصرم ..ومن يمنعون السفن الانجليزية بالقوة من اجتياز خليج العقبة حفاظا على سيادة مصر لا يصدق عنهم أنهم يضربون بالصرم ..ومن يلغون معاهدة 1936 متحدين الانجليز ولهم عشرات الألوف من الجنود فى قاعدة القناة لا يمكن أن يقال عنهم انهم كانوا يضربون بالصرم». ويستكمل فؤاد سراج الدين: «ان هذه الألفاظ جديدة على قاموس السياسة المصرية، وأرجو أن تصدقنى اذا قلت لك انها تترك فى مشاعر الشعب المصرى أسوأ الأثر ..إنك تدعو المواطنين لنبذ ألفاظ العيب والتمسك بأخلاق القرية ، فهل من أخلاق القرية توثيق الخصم بأشد القيود وحرمانه من كافة وسائل الدفاع عن نفسه». وفيما بعد دفع فؤاد باشا ثمن قول الحق وكتب الرئيس السادات على خطابه عبارة « يعاقب باعتقاله عند صدور الأمر «وبالفعل تم اعتقال زعيم الوفد فى اعتقالات سبتمبر عام 1981 رغم أن عمره وقتها تجاوز السبعين عاما ، ويلتقى « سراج الدين» فى السجن بتيارات سياسية متنوعة ، ويكتب المؤرخ صلاح عيسى عن لقاءات الباشا ومحاوراته لقادة الاسلام السياسى وغيرهم من التيارات السياسية . إن صلاح عيسى كان مستاء من وصف « الباشا« المقترن دائما بفؤاد سراج الدين ، وعندما رآه وتحادث معه ، وتعلّم منه فى السجن لم يجد أصدق من هذا الوصف تعبيرا عن الرجل ذى العقلية الوطنية الواعية القادرة على التنبوء وقراة الاحداث قراءة جيدة . ويقرر الوفديون بعد ذلك عودة حزب الوفد عن طريق القضاء ويحصل الوفد على حكم بالفعل عام 1984 للعودة للعمل السياسى مرة أخرى ليكرر «سراج الدين» النضال من أجل الديمقراطية والحرية . ويخوض الوفد انتخابات البرلمان عام 1984 ليحقق نتائج جيدة رغم التزوير ويكرر التجربة عام 1987 ثم يقرر الوفد مقاطعة الانتخابات البرلمانية لعدم وجود ضمانات ، ويظل نضال «سراج الدين» عنوانا لمرحلة عظيمة فى تاريخ مصر ، لذا لم يكن غريبا أن تخرج جموع المصريين مودعة له فى جنازة شعبية عظيمة فى أغسطس عام 2000 ليبقى حكم التاريخ أعظم وأفضل وأصدق له ولمن وفىَّ وأعطى ومنح هذا الوطن دون حدود.