لكي تتقدم الشعوب وتتواصل مع التكنولوجيا الحديثة وُتشجع علي الاستثمار يجب توظيف التكنولوجيا بحيث يُختار المناسب والملائم منها لكل دولة. ويجب أن يوضع في الاعتبار بناء الانسان نفسه والعمل علي تربية النشء تربية متكاملة من كافة النواحي النفسية والانسانية والعلمية. بناء الانسان يتطلب خططا وبرامج محددة تهدف إلي الحصول علي نتائج مستقبلية إيجابية تنعكس علي المجتمع. حكام الشعوب في البلاد المتخلفة تهتم بالشعارات وبناء الكميونات والمباني الفخمة بجانب غض النظر عن بناء العشوائيات وتبوير الأراضي الزراعية ولا تهتم ببناء الانسان. تحول الشباب في مصر إلي آلات غير منتجة وغير معدة الاعداد الجيد للمستقبل من الناحية النفسية والعلمية والرياضية، الكل يذهب إلي معهده ولا يتعلم شيئاً ثم يحصل علي المؤهل مجرد شهادة مختومة لا تؤهله للعمل الجيد حتي إن وجد. أيام الزمن الجميل كان الطالب يندرج ضمن مجموعات القسم المخصوص الذي شكل وجداننا رياضياً واجتماعياً من خلال الألعاب الجماعية الاستعراضية الإيقاعية مع الدوام علي تدريبات اللياقة البدنية حتي تظهر قدرات الشاب الصغير ويوجه حسب قدراته وإمكانياته إلي مختلف الألعاب التي تناسبه، كانت منظومة رياضية علمية بسيطة أسفرت عن نهضة رياضية كبيرة في الماضي. انتهي كل ذلك وانتهت وخربت الرياضة في مصر وأسفرت عن نهاية الالعاب الفردية والجماعية ولم يتبق إلا مجموعة من الاندية والساحات الشعبية تمارس فيها كرة القدم التي يتجمع حولها جموع الشعب لتهلل وتتعصب لتعبر عما يجيش في صدرها من كبت وظلم وقهر يدعمها مجموعة من المنتفعين يكتنزون الملايين من ورائها، أما بناء الانسان المصري فتوقف تماما وتحول الشباب المصري إلي متسكعين ومرتادي المقاهي وبلطجية الشوارع. انقلاب الضباط في عام 1952 عجزت قيادته العسكرية عن تقديم مشروع حضاري مستقل لتحقيق النهضة في مصر. اعلنوا أنهم جاءوا لتحرير مصر من الاستعمار وقيادة كفاح الأمة العربية من أجل الاستقلال ورفعوا شعارات تحمل معني السيادة الوطنية وسيطرة الأمة علي مقدراتها. بالرغم من تحقيق بعض النجاحات الا أنه لم يستطع قادة ومفكريو الانقلاب العسكري أن يتخلصوا من المفهوم الغربي للنهضة. لم يطرحوا أي تصور لما تحتاجه مصر ممكن له أن يختلف في أي جانب أساسي عن النموذج الغربي. قيادة مصر في الخمسينيات والستينيات كانت مخلصة في الدعوة إلي الاستقلال السياسي والاقتصادي وفعلا حققت شيئاً منه، لكن الخطأ الجسيم أنه كانت الدعوة إلي الاستقلال محصورة بين الاستقلال السياسي والاقتصادي فقط، وأهملوا بناء الانسان المصري وتدعيم متواصل الاجتماعي. لم يقدموا مفهوما مستقلا للنهضة بل علي العكس تماما من ذلك لقد أصاب هذه المحاولة الانتكاسة علي يد ضباط يوليو 1952. قبل 1952 كان دعاة الاصلاح في مصر يفهمون الاصلاح مفهوما واسعا، وشاملا في مختلف جميع مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاخلاقية. ولم يتم حسم قضية موقفنا من التغريب، وكان الخلاف محتدا بين أنصار تبني النموذج الغربي وأنصار العودة إلي الأصول والتمسك بالتراث بدون تطويره أو مع تطويره لملاءمة متطلبات العصر فلما جاء ضباط 1952 حسموا الأمر لصالح التغريب. لم يذهب الضباط بفكرهم إلي المدي الذي ذهبت إليه ثورة أتاتورك في تركيا، ولم يحسموا الأمر علي المستوي الفكري ولكن حسموه علي المستوي العلمي وذلك بإلقاء كل ثقلها إلي جانب التغريب، واتخذت كل ما كان في وسعها اتخاذه من إجراءات لترجيح كفته. لم يكن عبد الناصر طموحا في تصوره بأن المصريين والعرب ممكن لهم أن يقدموا للإنسانية نموذجاً مختلفاً للنهضة. كان هدف عبد الناصر المساواة مع الغرب وليس التميز عنه فمع اهتمامه الكبير ببناء المدارس ونشر التعليم الجامعي لم يخطر له علي بال التفكير في مضمون التعليم الذي يدرس في المدارس من حيث كفاءته وصلته بالتراث والتقاليد ونوع القيم والمبادئ التي يغرسها في أذهانهم. كان من أهداف عبد الناصر بناء مصانع جديدة ولكنه لم يفكر جدياً بالجدوي من إنتاج سيارات خاصة أو اجهزة تكييف في وقتها أو في المستقبل ومدي استمرار الانتاج وتطوره والعمل علي الاكتفاء الذاتي لمستلزمات الانتاج ولم يطرح سؤالا حول جدوي اختيار التكنولوجيا الملائمة في الصناعة الجديدة ومدي قدرتها علي إستيعاب الأيدي العاملة. كان المهم عند عبد الناصر تخرج عدد كبير من المهندسين في كافة التخصصات ولكن لم يكن من المهم لديه مثلا طراز العمارة ومدي اتفاقه وتواؤمه مع تقاليد المعمار الاسلامي أو الظروف البيئية أو عادات وتقاليد البشر. ومثال لذلك تجربة المهندس العالمي حسن فتحي الرائد العظيم وما أصابه المسكين من إحباط وإهمال وهي التجربة التي ينظر لها العالم نظرة متميزة لما لها من طابع خاص محلي متميز يعبر علي البيئة المحيطة واستخدام امكانياتها المتوفرة ويراعي فيها الظروف البيئية والمناخية. اهتم رجال حركة 1952 بالقضاء علي الأمية ومر أكثر من ستين عاما ومازالت الامية والتسرب من التعليم ينخر في أساس المجتمع وبجانب ذلك عدم الاهتمام باللغة العربية والحفاظ علي قواعدها من الابتذال والاهمال وعدم التواصل. اهتموا بتمصير المدارس الاجنبية وإخضاعها لإشراف الحكومة ولم يهتموا بالنهوض بتدريس اللغة العربية أو الدين الاسلامي أو الدين المسيحي أو التراث والتاريخ العربي العظيم. عزيزي القارئ .. لقد انطلق مدفع الإفطار.. اعذرني.. فللحديث بقية بإذن الله. wafik