احتاج جمال عبدالناصر، وهو يحرك الأحداث من وراء الستار، وقبل أن يصبح زعيم البلاد، احتاج إلى 44 يوما من بداية حركته الثورية، قبل أن يثبت للمصريين وللعالم أن رئاسته للدولة ستكون رئاسة تحويلية transformative presidency. وهكذا ففي التاسع من سبتمبر 1952 أعلن النظام الذي كان عبدالناصر يقوده من وراء واجهة شعبية تمثلت في الجنرال المثالي المظلوم محمد نجيب (عبدالناصر هو من وصفه بالمثالي في حديث مع صحيفة أجنبية بعد عزل نجيب) الإصلاح الزراعي، الذي كان في الأصل فكرة أطلقها علي ماهر باشا في الزمن الملكي، ومن سخريات القدر أن يزعم عبدالناصر ورفاقه أنهم خلعوا علي ماهر وأنهوا شراكتهم معه لأنه عارض الإصلاح الزراعي. ويظن وطنيون مخلصون كثيرون أنه يخصم من رصيد عبدالناصر أنه لم يكن صاحب فكرة الإصلاح الزراعي التي سبقه إليها علي ماهر وإبراهيم شكري، ولم يكن أول من تحدث عن الاشتراكية الإسلامية التي سبقه إليها إبراهيم شكري، كما سبقه إلى الدعوة لمجانية التعليم طه حسين. لكن عبدالناصر لم يكن رجل أفكار أو داعية، بل كان رجل دولة تبنى الأجندة الوطنية التي تشكلت بين 1942 و1952 ونذر نفسه لتنفيذها، بما فيها من إصلاح زراعي وجلاء وتأميم وتمصير وخلافه، وكانت هذه الأجندة هي الأساس الذي قامت عليه رئاسته التحويلية. ثم انهزم ناصر في 1967 وجاء أنور السادات ليؤسس رئاسة تحويلية انطلقت من أخطاء سلفه العظيم. لكن السادات احتاج إلى سبعة أشهر وسبعة عشر يوما ليبدأ عملية التحول في 15 مايو 1971. وكانت المدة أطول لأنه كان بصدد إحداث تحول في إطار الحفاظ على النظام الموروث بملامحه العامة، في حين أن ناصر دخل إلى مرحلة التحول بسرعة لأن تأسيس نظام جديد كان على رأس أولوياته. ولم تكن رئاسة حسني مبارك رئاسة تحويلية فقد جاء للحكم بعد خريف الغضب، وبالتالي فقد كانت مهمته المباشرة هي التهدئة. ولأن أطرافا دولية مؤثرة زعمت أن السلام مع إسرائيل والوفاق مع الغرب ومع حلفائه في المنطقة لم يكونا سوى إرث ساداتي سيختفي باختفاء صاحبه، فقد فرض التاريخ على مبارك أن تقوم سياساته على «التثبيت»: تثبيت السلام والوفاق العام في الخارج، وتثبيت التعددية الحزبية والاقتصاد الحر والوفاق العام في الداخل، كتطبيق مصري للمبدأ الأتاتوركي العظيم «سلام في الداخل سلام في الخارج». وفي مواجهة التمرد الأصولي المسلح الذي استمر من 1992 حتى 1997 تحولت «التهدئة» و«التثبيت» إلى إماتة للسياسة وأصبحت الحياة العامة تدار بتوزيع الأنصبة، وامتد عمر النظام فشاخت السياسات والسياسيون، ولم يكن صبغ الشعر علاجا ناجعا لشيخوخة النظام، ولم يكن تمكين شباب النخبة من احتكار السياسة والبزنيس، وتحويل الإخوان المسلمين إلى شريك أوحد للنظام سوى مقدمة للانفجار الذي وقع في 25 يناير 2011. ثم جاءت رئاسة السيسي. وإذا كان عبدالناصر احتاج 44 يوما ليضع حركته السياسية على طريق الرئاسة التحويلية، فقد وضع السيسي حركته السياسية على الطريق ذاته قبل أن يتولى القيادة. فنداء السيسي لجماهير 30 يونيه بالنزول للشارع قلب المعادلة التي قامت عليها جمهورية يوليو والتي بموجبها اعتبر عبدالناصر (عن حق) أن الجيش هو «طليعة الشعب المسلحة»: في 23 يوليو 1952 نزل الجيش ليحاصر القصور الملكية ثم نزل بعده الشعب مناصرا ومؤيدا. وفي 30 يونيه 2013 نزل الشعب (بدعوة من السيسي) يطالب محمد مرسي بالانخلاع والاختفاء ونزل بعده الجيش ليحقق مطالب الجماهير. فهل كانت هذه بدعة ابتدعها عبدالفتاح السيسي؟ بالقطع لا. فالشعب نزل إلى الشارع في 2011 ونزل وراءه الجيش بقرار من ابن الشعب المشير محمد حسين طنطاوي. وهكذا أسس طنطاوي، عندما استجاب لحركة التاريخ المصري في يناير 2011 أجندة وطنية جديدة تعين أن يلتزم بها السيسي وكل قائد سياسي سيأتي بعده. وتقضي هذه الأجندة بأن يتأسس كل تحول سياسي على إرادة الجماهير وفي اتجاه حركة التاريخ المصري. ولهذا السبب تعين خروج محمد مرسي من المشهد لأنه ينتمي لحركة معاكسة لإرادة أغلبية الجماهير ولتيار التاريخ المصري. نزول الجماهير للشارع في يناير 2011 عبر عن مطالب قد لا تتحقق إلا بتحويل التعددية السياسية الديكورية التي ابتدعها السادات ومبارك إلى تعددية فاعلة، وبإنقاذ الليبرالية الاقتصادية من قبضة الاحتكار والفساد الناشئين عن تواطؤ البيروقراطية الحكومية مع مجتمع البزنيس، وإلا بحل معضلة خطيرة موروثة عن أجيال سابقة على ناصر والسادات ومبارك. لقد عرفت مصر الملكية أربع رئاسات تحويلية هي: رئاسة محمد علي ثم الخديو إسماعيل ثم الخديو عباس حلمي ثم فؤاد الأول. وقد لخص شوقي بك عظمة فؤاد الذي ظلم نفسه بمعاداة سعد باشا والنحاس باشا ولم يشفع له اعتذاره وهو على فراش الموت للنحاس، لخص شوقي عظمة فؤاد بقوله مخاطبا توت عنخ آمون، بعد اكتشاف هوارد كارتر لمقبرته، قائلا: فؤاد أعز بالدستور منكا وأكرم منك بالإسلام دينا لقد أوضح لنا سعد والنحاس كيفية تأسيس حكم دستوري من دون السقوط في حمأة الفوضى. وأوضح لنا ناصر كيفية الانتقال من العلمانية الفرنسية المنكرة للدين إلى العلمانية الأنجلو-أمريكية المعترفة بالدين من دون أن نتورط في مستنقعات الأصولية الإخوانية السلفية، وبذلك كان يمكننا تحقيق ما اعتبره شوقي بك عنصري العظمة المصرية: الدستور والإسلام. لكننا عجزنا، من زمن فؤاد لزمن مبارك، عن استيعاب الدرسين الوفدي والناصري. ويعود هذا العجز لأسباب منها عدم احترام فؤاد، وهو مانح الدستور، للدستور، ومنها إصرار ناصر على مقايضة الحقوق السياسية بالحقوق الاجتماعية-الاقتصادية والاستقلال. ولن تكون رئاسة السيسي رئاسة تحويلية إلا بجعل هذين الدرسين، الوفدي والناصري، وفي إطار الموروث الساداتي السلامي والتعددي، أساسا لحياتنا السياسية الجديدة.