يحاول معلقون سياسيون مصريون، خصوصاً المنتمين إلى التيار الناصري، تشبيه الفريق أول عبدالفتاح السيسي - وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة - بالرئيس السابق جمال عبدالناصر. وبينما بهذه الطريقة هم يحاولون تمجيد زعيمهم القديم عبدالناصر، إلا أنهم بكل تأكيد يسيئون إلى السيسي وينسبون إليه مشروعاً شمولياً هو بعيد منه كل البعد. فبينما قام عبدالناصر بانقلاب عسكري ضد النظام الملكي البرلماني بلا تفويض من الشعب، لم ينزل السيسي قوات الجيش إلى الشارع إلا حماية لثورة الشعب من أجل «استعادة الحق إلى صاحبه الأصيل». وعلى رغم أن الفريق السيسي ظل ملتزماً القواعد العسكرية مطيعاً أوامر الرئيس مرسي حتى تلك التي لم يوافق عليها، إلا أنه لم يقبل التهديد الذي وجهه «الإخوان» إلى الشعب المصري، خصوصاً بعد خروج ملايين المصريين في 30 يونيو مطالبين بإسقاط مرسي وحكم «الإخوان المسلمين». عندما نحاول التعرف إلى المشروع السياسي لجمال عبدالناصر من طريق الخواطر التي نشرها في عنوان «فلسفة الثورة»، نجد أنه يختلف عما كان متفقاً عليه بين مثقفي جيله من المصريين. فهو لا يعتبر أن محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة الذي أقام الدولة وأنشأ الجيش، بل يراه مجرد واحد من المماليك، وبينما ترى الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري أن ثورة 1919 - بقيادة سعد باشا زغلول - هي أهم تحرك شعبي في تاريخ مصر الحديث، يقول عبدالناصر: «ضاعت ثورة 1919 ولم تستطع أن تحقق النتائج التي كان يجب أن تحققها... وكانت النتيجة فشلاً كبيراً». ولم يتحدث عبدالناصر في «فلسفته» عما كان يشغل بال المصريين بخصوص جلاء القوات البريطانية وتسويع نطاق الديموقراطية والرخاء الاقتصادي، لكنه تحدث عن فلسطين: «طلائع الوعي العربي بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانوية أخرج مع زملائي في إضراب عام في الثاني من شهر نوفمبر من كل سنة، احتجاجاً على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود... بدأت أدرس وأنا طالب في كلية أركان الحرب حملة فلسطين ومشاكل البحر المتوسط بالتفصيل. ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس». كما أن عبدالناصر قام بتشكيل جماعة سرية داخل الجيش أطلق عليها اسم «الضباط الأحرار» تهدف إلى القيام بعمليات اغتيال سياسي لرجال الحكم في مصر، ولم تكن لديه أية فكرة عن تنظيم ثورة شعبية لتغيير نظام الحكم في البلاد. وتحدث ناصر عن ذلك في كتابه عن فلسقة الثورة: «أعترف بأن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي على أنها العمل الإيجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه، وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله. فكرت في اغتيال الملك السابق (فاروق) وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا، وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام وما أكثر الليالي التي سهرتها أعد العدة للأعمال الإيجابية المنتظرة. كانت حياتنا في تلك الفترة (في تنظيم الضباط الأحرار) كأنها قصة بوليسية مثيرة، كانت لنا أسرار هائلة وكانت لنا رموز، وكنا نتستر بالظلام، وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به». وعندما ضعفت الحكومة المصرية بعد حريق القاهرة في 25 كانون الثاني (يناير) 1952، قرر تنظيم الضباط الأحرار بقيادة البكباشي جمال عبدالناصر القيام بانقلاب عسكري في 23 تموز (يوليو) 1952 ألغى النظام الملكي الدستوري وجاء بالحكم الفردي الشمولي. كان أول عمل قام للضباط الأحرار هو التخلص من الملك فاروق، واستبعاد قادة الجيش من ذوي الرتب العالية، ثم شكلوا من أنفسهم هيئة باسم «مجلس قيادة الثورة» لحكم البلاد، اختاروا جمال عبدالناصر رئيساً لها. وقال اللواء محمد نجيب الذي اختاره الضباط رئيساً لهم: «إن تحركنا ليلة 23 يوليو 1952 والاستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعاً انقلاباً، وكان لفظ انقلاب هو اللفظ المستخدم في ما بيننا، ثم عندما أردنا أن نخاطب الشعب وأن نكسبه لصفوفنا، استخدمنا لفظ (الحركة). وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة المباركة، وبدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع لتعبر عن فرحتها بالحركة وبدأت برقيات التهنئة تصل إلينا وإلى الصحف والإذاعة، فبدأنا أحياناً باستخدام تعبير الثورة إلى جانب تعبيري الانقلاب والحركة». (محمد نجيب، كنت رئيساً لمصر، ص 145 - 146) هكذا، أسقط عبدالناصر النظام الديموقراطي الوليد الذي كان قائماً في البلاد، وفرض حكماً فردياً شمولياً. فقبل يوليو 1952 كان في مصر دستور يكفل حق تكوين الأحزاب السياسية من دون شروط، وبرلمان يراقب أعمال الحكومة ويسقط الوزراء. في تلك الأيام كان في مصر 12 حزباً سياسياً ألغاها ناصر جميعها وأحل مكانها تنظيماً واحداً، تغير اسمه من «هيئة التحرير» إلى «الاتحاد القومي» إلى «الاتحاد الاشتراكي» ثم «الحزب الوطني» الذي ظل يزوّر الانتخابات ويختار الوزراء الفاسدين ويضع سياسة الحكومة، ويسيطر على المال والأمن في البلاد إلى أن أسقطته ثورة 25 كانون الثاني 2011. وبعد مغامرة حربية قام بها عبدالناصر في حزيران (يونيو) 1967، تمكنت إسرائيل من احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية وإيقاف العمل في قناة السويس، كما استولت على قطاع غزة من السلطة المصرية وانتزعت الضفة الغربية والقدس القديمة من الدولة الأردنية. ولما مات عبدالناصر في 1970 خلفه الرئيس أنور السادات الذي تمكن من استعادة سيناء وعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، ثم جاء الرئيس حسني مبارك ليخلف السادات في النظام الشمولي الذي أقامه عبدالناصر. وعلى هذا، عندما نزلت الجماهير المصرية إلى ميدان التحرير في 25 كانون الثاني 2011، تطالب برحيل حسني مبارك، لم تكن هذه الثورة موجهة ضد الرئيس شخصياً، بل ضد النظام الشمولي القمعي الذي أسسه عبدالناصر وسيطر على حكم البلاد لحوالى 59 عاماً. وبسقوط مبارك انتهت شرعية ثورة يوليو وبدأ عصر جديد يرفض حكم الحزب الواحد ويطالب بعودة الحياة البرلمانية إلى مصر. وانحصرت شعارات ثورة ميدان التحرير في المطالبة بالتخلص من سيطرة الحزب الوطني ووزرائه الذين حققوا ثروات كبيرة نتيجة للفساد، كما طالبت بتحقيق الديموقراطية ورفع مستوى المعيشة للشعب. بعد حوالى 60 عاماً من الحكم الشمولي الذي لم يسمح بتبادل السلطة أو بتنظيم أحزاب سياسية معارضة، تمكنت جمعية «الإخوان المسلمين» التي استخدمت آلاف المساجد مقار لها، من اختطاف ثورة المصريين وتنصيب رجالها حكاماً لمصر. لكن الشعب المصري سرعان ما أدرك أن «الإخوان» يعملون على استبدال النظام الشمولي الناصري بنظام ديني أكثر شمولية. وبينما اكتفى النظام الناصري بالسيطرة على الحكومة، أراد «الإخوان» إسقاط الدولة المدنية التي أقامها محمد علي – والتي أطلقوا عليها اسم الدولة العميقة – وإقامة دولة دينية تعيد نظام الخلافة الإسلامية الذي أسقطه كمال أتاتورك في تركيا في 1924، تحقيقاً لحلم حسن البنا مؤسس الجماعة. غضب المصريون وخرجوا إلى الشوارع ينادون بسقوط حكم «الإخوان»، ويطالبون الرئيس محمد مرسي بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. لكن مرسي رفض الاستجابة لمطالب شعب مصر، وراح «الإخوان» يهددون بحمامات الدم لكل من يفكر في تغيير النظام. وأدرك الرئيس مرسي عدم رضى القادة العسكريين عما كان يجري في البلاد، فعمل على إبعاد الجيش عن الساحة السياسية وعدم إنزاله إلى الشارع، على رغم انتشار الفوضى في البلاد، خشية انضمامه إلى الشعب مثلما حدث في 28 كانون الثاني 2011. وعندما حاول قادة الجيش في كانون الأول (ديسمبر) 2012، دعوة القوى الوطنية للتباحث مع الرئيس مرسي من أجل حماية الوحدة الوطنية والخروج من الأزمة السياسية، اعتبر «الإخوان» هذه الدعوة تدخلاً في الشؤون السياسية وقام مرسي بإلغاء هذا اللقاء. عندئذ حذر الفريق أول عبدالفتاح السيسي - قائد الجيش - من أن مصر أصبحت تواجه تهديداً حقيقياً لأمنها، وقال إن استمرار صراع القوى السياسية حول إدارة شؤون البلاد، قد يؤدي إلى انهيار الدولة المصرية نفسها. وعلى رغم عدم رضى الجيش عما كان يحدث في الشارع السياسي، لم تكن هناك نية للقيام بانقلاب عسكري أو لإحياء النظام الناصري، فلا يوجد ناصر جديد بين ضباط الجيش المصري الآن، كما لا توجد رغبة لدى الجماهير للعودة إلى حكم العسكر. لكن الفريق السيسي قرر بعد ثورة 30 حزيران 2013 – بموافقة جميع القادة العسكريين – أن يتولى الجيش حماية الدولة المصرية وشعبها، وتطور الموقف، ما أدى إلى إقصاء محمد مرسي عن كرسي الرئاسة، ووضع خريطة طريق اتفقت عليها طوائف الشعب لإعادة تكوين حكومة الثورة من دستور ورئيس وبرلمان. هكذا، يتضح الخلاف الكبير بين السيسي وعبدالناصر، فلم يقم السيسي بانقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة كما فعل عبدالناصر، ولم يقم السيسي بتشكيل مجلس عسكري لحكم البلاد أو إلغاء الأحزاب كما فعل الضباط الأحرار من قبل، بل أعاد السلطة إلى الشعب ليكتب مندوبوه دستوراً يعبر عن طموحاته، ثم ينتخب رئيساً وبرلماناً بحرية تامة. وإذا ما قرر الفريق السيسي التخلي عن منصبه العسكري والترشح للرئاسة، فهو يوافق مقدماً على دستور الشعب الذي قرر إقامة دولة مدنية ديموقراطية، وقلص سلطات الرئيس لمصلحة مجلس الوزراء والبرلمان. نقلا عن صحيفة الحياة