الأزمة التي تواجه المبدع الحقيقي الآن هي أزمة تمويل فكرة، سواء كانت في الغناء أو السينما أو الدراما، لأن شركات القطاع الخاص منذ سنوات، لا تقدم سوي الأعمال التي تجني من ورائها الأرباح والمكاسب حتي لو كانت هذه الأعمال تهدم المجتمع، وتعمل علي نشر الرذيلة والإباحية، وكل مفردات «قلة الأدب» من ألفاظ ومشاهد. كل شيء الآن أصبح يخضع للغة التجارة، وبالتالي فقدنا كمصريين ريادتنا في كل شيء، غناء وسينما ومسرح وقنوات تليفزيونية بعد أن خرج ماسبيرو من السباق وأضاع خلفه 80 سنة إذاعة، ونصف قرن تقريباً تليفزيون، لذلك الدولة خلال الفترة القادمة أمامها تحدٍ كبير في مجال الفنون والإعلام، وهو كيفية عودة الفن المصري إلي ما كان عليه؟.. في تقرير سابق نشر الأحد الماضي عرضنا ما وصل إليه الفن المصري خلال السنوات الأخيرة وبالقطع وزارتا الإعلام والثقافة المعنيتان بالنهوض بتلك الفنون لن تحركا ساكناً علي اعتبار أن طرح القضية جاء بشكل عام ودون ذكر اسميهما، وبالتالي أتصور أن محمد صابر عرب وزير الثقافة، ودرية شرف الدين وزيرة الإعلام سوف يترحمان معنا علي الماضي الجميل، مع تنهيدة عميقة من القلب علي الحال الذي وصلنا، رغم أنه من الطبيعي أن يقوم كل منهما بدوره، فالثقافة لديها دور كبير في إحياء قصور الثقافة التي تسكنها الأشباح لتكون مراكز إبداع يخرج منها المطرب والملحن والشاعر والعازف، فالريف المصري خرج منه عمالقة الفن بداية من أم كلثوم وعبدالحليم حافظ والسنباطي والموجي، ومن الإسكندرية جاء سيد درويش وبيرم التونسي، ومئات الأصوات والشعراء والملحنين، أنجبتهم الأقاليم، وبالتالي هناك مئات من الشباب الآن موجود في الصعيد، ووجه بحري، ومطروح وشمال وجنوب سيناء، وأسوان يحتاجون إلي بيئة صالحة تقدمهم إلي الساحة، وهذا لن يحدث إلا إذا كانت قصور الثقافة لديها الاستعداد الكافي لاستقبال هذا الشباب المبدع، قبل أن يتحول هؤلاء الشباب من المبدعين إلي فريسة لأصحاب الفكر المتخلف وخفافيش الظلام، فالإرهاب لم ينتشر في الصعيد ووجه بحري إلا عندما أغلقت قصور الثقافة أبوابها في وجه الإبداع، خاصة أن ما يتوفر للمبدع في القاهرة لا يوجد مثيل له في الأقاليم، ففي القاهرة، هناك معاهد ومراكز ثقافية وغيرها، أما المدن والقري والنجوع، كل الطرق تؤدي إلي القصور، التي تحولت إلي قبور مسكونة. وزارة الثقافة عبر مديريات الثقافة المنتشرة في كل أقاليم مصر تستطيع أن تنقذ مصر من مهازل كثيرة، وهذا يستوجب أن يكون القائم علي رأس هيئة قصور الثقافة شخصية شابة متحركة، تضع سياسات وتتابع تنفيذها، الشيء الغريب أن محمد صابر عرب وكل الوزراء الذين جاءوا بعد الثورة لم نشاهدهم في قصر ثقافة خارج القاهرة، جميع الأسماء نشاهدها فقط بدار الأوبرا حيث صفوة القوم، وبالتالي علينا أن نعيد النظر في بعض الأسماء وإعادة تقييمها بداية من رئيس الهيئة وحتي الموظفين في الأقاليم، حتي لو اقتضي الأمر تدخل رئيس الوزراء إبراهيم محلب وهو شخصية متحركة بطبعه وبالتالي اختياره سيكون وفق فكره وحركته. المستوي الثاني الذي يتطلب تدخل الوزير هو تبني الأسماء التي تخرج من قصور وبيوت الثقافة في المسرح والغناء، ممن يكون لديهم نبوغ وتقديمهم للفرق الكبري، وإلحاق صغار السن منهم بأكاديمية الفنون كل حسب مجاله وموهبته، وهنا يجب أن يكون هناك دور للإذاعة والتليفزيون لتقديم هذه المواهب عبر برامجهم المختلفة. أما السيدة وزيرة الإعلام درية شرف الدين، فعليها دور أكبر أولاً علي جميع القنوات التابعة لها أن تنتقي الأعمال الدرامية التي تقوم بعرضها، فلا يجوز لتليفزيون مصر أن يساير الموضة ويعرض كل ما هو قبيح وخارج، السنوات الماضية شاهدنا أعمالاً لا تليق من حيث المستوي أو الصورة بالتليفزيون المصري، أيضاً لدي هذه الوزارة جهات إنتاج لابد من عودة الروح لها، فلا ننسي أن هذا الجهاز أنتج لنا «ليالي الحلمية» أهم مسلسل مصري في التاريخ وقبله «الشهد والدموع» ثم «المال والبنون» و«بوابة الحلواني» و«أرابيسك»، و«الأيام» قصة حياة طه حسين، و«ذئاب الجبل» و«الرايا البيضا» و«البشاير» و«سنبل» و«رأفت الهجان» و«دموع في عيون وقحة» و«أهلاً بالسكان» و«أبنائي الأعزاء شكراً» و«أبوالعلا البشري» و«ألف ليلة وليلة» و«الفوازير» لنيللي وشريهان وسمير غانم، كل هذه الأعمال وغيرها قدمها اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وهي أعمال مهمة بها القيمة والفكر، وأعطت لمصر حقها في الريادة، أما الآن فالتليفزيون أصبح جهاز استقبال وليس إرسال، أصبح شأنه شأن أي قناة مبتدئة يجري خلف الشركات حتي تعطيه حق عرض مسلسلات تافهة لا قيمة لها ولا فكر، الآن آن الأوان لكي يُعاد النظر حتي يعمل جيش البطالة الموجود في ماسبيرو، لأنه بهذه الطريقة سوف يحسب هذا الطابور الطويل من العاملين في ماسبيرو علي البطالة المقنعة، لكن مع دخول الشركات التابعة للإعلام مثل صوت القاهرة، وقطاع الإنتاج ومدينة الإنتاج إلي المنافسة مرة أخري وإنتاج الدراما سوف يجد التليفزيون حلاً لضعف الميزانية. أيضاً علي مستوي البرامج لابد من إيجاد حل لهذا التراجع الكبير مع ضرورة إقصاء كل من لا يصلح للظهور علي الشاشة واستعادة كل الوجوه التابعة لهذا الكيان ممن ذهبوا للفضائيات، مع فتح مساحة لحرية الرأي والتعبير، والنقد الذي من الممكن أن نسمعه علي قنوات أخري لماذا لا نسمعه علي الشاشة المصرية؟.. حتي لا يزايد علينا أحد. التليفزيون والإذاعة لديهما دور كبير في عودة الأغنية إلي موقعها سواء عن طريق الحفلات وإسناد لياليها لكبار المطربين الذين يعانون من البطالة الآن، أيضاً كبار الملحنين لابد من إيجاد دور لهم من خلال عودة الإنتاج الإذاعي وتسويق هذه الأعمال. وزارة الإعلام هي صورة مصر المرئية والمسموعة ووزارة الثقافة هي صورة مصر الإبداعية.. وكلتاهما تحتاج إلي الكثير حتي تعود مصر إلي ريادتها.