لو أن قضاء مصر يخضع للسلطة التنفيذية الحاكمة، لكان آخر ما تريده الحكومة هو صدور الأحكام القضائية بإعدام بعض «الإخوان» وسجن الآخرين في هذا الوقت بالذات، ولو كانت مقتضيات السياسة هي التي تحكم في قضايا العدالة، لكانت آخر «هدية » يمكن أن تتوقعها الحكومة في مصر هي هذه الأحكام التي تم استغلالها عن عمد في معظم الأحيان وعن جهل في بعض الأحوال لتصوير مصر على أنها دولة يغيب عنه القانون. ولو كان القضاء في مصر يقبل الضغوط من أي طرف، لخاف القضاة من انتقام فصيل إرهابي مثل الإخوان، أو لتمهلوا في حكمهم ليعطوا فرصة لانتصارات تتحقق في الداخل والخارج، وتجبر الأعداء على أن يرجعوا عن مواقفهم ضد شعب مصر وثورته التي أسقطت حكم الإخوان الفاشي. الضجة التي ثارت قبل بضعة أسابيع مع إحالة أوراق أكثر من خمسمئة من المتهمين في أحداث المنيا في أغسطس من العام الماضي إلى مفتي الديار المصرية لم تتوقف، حتى بعد أن ثبت ما يعرفه رجال القانون من أن إحالة الأوراق للمفتي لا تعني الحكم بالإعدام، بل إن رأي فضيلة المفتي هو رأي استشاري، والقرار في النهاية للمحكمة التي تتكون هنا من ثلاثة قضاة أجلاء قضوا نصف عمرهم على منصة القضاء. وهكذا صدر الحكم بإعدام 37 معظمهم من الهاربين الذين تقضي القواعد القانونية في مصر بإسقاط العقوبة عنهم في حالة القبض عليهم أو استسلامهم لتعاد محاكمتهم من جديد. ومع ذلك يظل الحديث عن «إعدام جماعي!!» وعن تسييس القضاء وعن انتقام من أبرياء لا يذكر من يستغل الحكم لمصالحه الحزبية أو التآمرية بشاعة الجرائم التي ارتكبوها، وكيف قتلوا ضباط شرطة رفضوا أن يطلقوا الرصاص عليهم، وكيف قاموا بالتمثيل بالجثث وإلقاء ماء النار على الضحايا، إلى آخر قائمة الاتهامات التي أجبرت هيئة المحكمة على أن تقول إنها استخدمت منتهى الرأفة في الحكم على المئات الذين اكتفت معهم بالسجن بدلاً من الإعدام. في نفس يوم النطق بالحكم، أحالت المحكمة أكثر من ستمئة متهم في قضية أخرى لاستطلاع رأي فضيلة المفتي. ومن بين المتهم في هذه القضية مرشد « الإخوان» الأخير محمد بديع وعدد من قيادات الجماعة. والمتوقع أن تمر القضية بنفس طريق القضية التي تم الحكم فيها، خاصة أن معظم المتهمين أيضاً هاربون !! ومع بشاعة الجرائم التي ارتكبها «الإخوان» فإن علينا أن ندرك أنه أمر طبيعي أن نرى مشاعر الصدمة عند قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي حين يقال لها إن أحكاماً بالإعدام قد صدرت ضد أكثر من ألف شخص.. ولأسباب سياسية!! وعلينا أن نتفهم أن معظم هذه الدول (خاصة أوروبا) قد أوقفت عقوبة الإعدام. ثم علينا أن نعترف بتقصيرنا الشديد في شرح قضايانا، لا أقول للحكومات الغربية فهي تعرف الحقيقة وتتغاضى عنها أو تتآمر عليها وعلينا، ولكن للشعوب التي لم نحسن مخاطبتها حتى الآن. ورغم أن أحكام الإعدام التي صدرت، أو التي يمكن أن تصدر، لا بد لها من إجماع آراء هيئة المحكمة المكونة من ثلاثة قضاء أجلاء، فإن محكمة النقض المكونة من خمسة أعضاء يمثلون القضاء المصري ستكون لها الكلمة الحاسمة في الأمر. ومع أن الكثيرين يرجحون نقض الحكم وإعادة المحاكمة، فإنه حتى إذا أقرت محكمة النقض ما صدر من أحكام إعدام، فسيبقى الأمر في هذه الحالة رهناً بقرار رئيس الجمهورية الذي يمكن له إصدار عفو رئاسي أو تخفيف العقوبة. مصر لم تعرف «مهرجانات الإعدام» التي عرفتها دول غربية تدعي الطهارة اليوم. حتى مع جماعة نشأت على الإرهاب وعاشت عليه مثل « الإخوان» لم يحدث ذلك لا في محاول اغتيال عبد الناصر والاستيلاء على الحكم عام 54، ولا في محاولة سيد قطب لإعادة مصر إلى عصر الجاهلية عام 1965، ولا حتى في اغتيال السادات بعد ذلك. كان الأمر في كل ذلك يتوافق مع وسطية مصر ومع سيادة القانون فيها، ومع الانحياز للعدالة التي حصرت أحكام الإعدام في من يستحقها من الإرهابيين، ونفذت ما قال به مفتي الديار المصرية في القضية الأخيرة من أن القصاص يرتبط بالمشاركة الفعلية في جريمة قتل الضحايا. مصر لم تعرف «مهرجانات الإعدام» ولن تعرفها.. إلا إذا كان « الفاعلون» هم الإخوان وأنصارهم وحلفاؤهم!! هؤلاء الذين قتلوا الجنود المصريين على الحدود في رمضان، وذبحوا رجال الشرطة ومثلوا بجثثهم كما فعلوا في كرداسة. وألقوا الأطفال من على سطوح البنايات كما فعلوا في الاسكندرية، وأطلقوا من على «منصة رابعة» نداءهم الشهير: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، مع التأكيد بأنهم قدر رأوا رؤوساً قد أينعت وحان قطافها!! وبالطبع لم يكونوا يدركون يومها أن رؤوسهم هم هي التي ستكون مطلوبة بسبب جرائمهم التي لم تتوقف، والدماء التي سفكوها، وخيانتهم للوطن التي وصلت لاستجداء تدخل الأعداء المسلح ليعيدهم إلى حكم أسقطهم منه الشعب في مشهد لم يرَ التاريخ له مثيلاً حتى الآن!! وبعيداً عن الضجة التي أثارتها هذه الأحكام التي صدرت في فترة ملتبسة ومليئة بالتناقضات، فإن المهم بالنسبة لمصر أن يظل القضاء بعيداً عن التجاذبات الحزبية والصراعات السياسية والضغوط المحلية أو الدولية. الحفاظ على استقلال القضاء هو الأساس، ومع هذا الاستقلال فمن المؤكد أنه لن تكون هناك « مهرجانات إعدام» في مصر كما تروج حملات التزييف، ولن يتم القصاص إلا من الذين يستحقون ذلك. الإرهاب وحده هو الذي يمارس هذا الإعدام الجماعي كما فعل مع جنود الجيش في سيناء ومع جال الشرطة في كرداسة. الإرهاب الذي تقوده جماعة الإخوان هو الذي يرتكب هذه الجرائم البشعة ثم يشكو من قضاء يلتزم بالقانون ولا يعرف الانتقام. في مصر دولة قانون ومؤسسات وفي مصر إرهاب أعلن الحرب على الشعب. وبين الاثنين قضاء مستقل وقانون قال «الإخوان» إنهم سيدوسونه بالأحذية، ونصر نحن على احترامه حتى النهاية!! نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية