مازال الجدل مستمراً حول قرار مجلس الوزراء برئاسة المهندس ابراهيم محلب بهدم مبني الحزب الوطني وضم أرضه إلي المتحف المصري.. مازال الجدل مستمراً.. وبعيداً عن ملكية هذه الأرض، التي كانت جزءاً من ثكنات الجيش المصري المعروفة باسم ثكنات قصر النيل، نقول إن هذا المبني وتابعه لا يملكان أي لمسة جمالية معمارية.. فضلاً عن أن عمرهما لا يتجاوز نصف القرن.. وبالتالي لا قيمة معمارية لهما.. وهذه النقطة هي فصل الخطاب.. بل هي تطرح هذا الخواء المعماري الذي صاحب كل انشاءات ومباني ثورة 23 يوليو.. فهي منشآت لا تحمل أي جماليات.. مثل تلك التي نجدها متوافرة في عمارات ومباني ما قبل ثورة يوليو هذه.. سواء المباني العامة.. أو المباني الخاصة.. أي بيوت العامة والناس.. وتعالوا نقارن. في المباني العامة، نجد القصور الملكية، ليس فقط عصر أسرة محمد علي.. ولكن ما بقي أيضاً من مباني السلاطين القدامي ومساجدهم ومدارسهم.. ولكننا نبدأ فقط مع أسرة محمد علي وعصرها. من ميدان العتبة الخضراء نجد مبني مصلحة البريد.. ومبني المطافئ حتي سوق الخضر والفواكه بين شارعي الأزهر ومحمد علي. ونجد أيضاً مبني دار القضاء العالي الذي بدأ كمقر للمحكمة المختلطة وخلفها نجد مبني الشهر العقاري.. وحتي عندما أقيم مبني نقابة المحامين روعي أن يتناسب هذا المبني معماريا مع ما حوله من مبان عامة أخري.. وعلي بعد خطوات نجد مبني سنترال رمسيس الذي استخدم أيضاً مقراً لوزارة النقل.. والمواصلات.. ويجاوره مبني جمعية المهندسين المصريين الذي أقيم في عشرينيات القرن الماضي، وافتتحه الملك فؤاد بنفسه إلي أن نصل إلي مبني الإدارات الهندسية للسكك الحديدية.. ثم محطة مصر نفسها. وقارنوا حتي بين مباني الجامعات زمان.. والمدارس كذلك وما أنشئ في عصر ثورة يوليو من جامعات ومدارس.. ومباني جامعة القاهرة القديمة: القبة، وكليات الآداب والحقوق والتجارة والعلوم.. وهكذا.. والجامعات التي أقيمت بعدها في 19 محافظة، وكذلك المدارس ومازلت أنحني احتراما لمن بني مدرسة دمياط الابتدائية والثانوية في ثلاثينيات القرن الماضي بكل تجهيزاتها القديمة وملاعبها.. ثم قارنوا بينها وبين مدارس «علب الكبريت» التي أقيمت في عصر يوليو المعماري!! ولن نتحدث عن المدارس الأجنبية في الاسكندرية مثلاً التي تنافس مدارس أوروبا كلها!! وحيت مباني كليات جامعة الاسكندرية التي أقيمت في منتصف الأربعينيات، وبالذات كلية الهندسة التي تذكرنا بعمق العلاقة بين المعبد والمعهد!! والمدهش أن هذه المباني «المعابد والمعاهد» تعمر لمئات السنين وربما تكون مدرسة أو مسجد السلطان حسن» هي النموذج الذي يجسد هذا المعني.. المعمر.. وقد يكون للحكومة وسعيها إلي خفض تكاليف المباني العامة أسبابها في عدم الاهتمام ب «شكل» وجماليات المباني العامة.. ولكن الكارثة انتقلت إلي المباني والعمارات الخاصة.. وتابعوا معنا أو طوفوا معنا ببعض شوارع القاهرةوالاسكندرية لنتجول مبهورين بجماليات العمارات والاهتمام بتجميل العمارة من الخارج والداخل.. حتي «درابزين» السلالم في عمارات الخديوية بشارع عماد الدين أو شارع هدي شعراوي، أو شريف ثم قصر النيل.. أليست هذه العمارات تنافس عمارات إيطاليا وفرنسا والنمسا، وتتفوق علي عمارات بريطانيا.. حتي المساكن البسيطة.. حرص أصحابها زمان علي تجميلها بأعمال الجبس بل والأعمال الخشبية وأعمال الكريتال.. ولن نعيدكم إلي عصر المشربيات الخشبية الرائعة، في الأحياء الشعبية.. ولكن هل نذكركم ببيوت رائعة أقيمت في المنيا وبني سويف وأسيوط والأقصر.. ودمياط والمنصورة.. وكلها لها لمسات جمالية وتشمل جماليات معمارية رائعة.. واعترف أن من هواياتي القديمة كانت التجول في شوارع المدن لكي استمتع بجماليات مبانيها.. اذ كان المصري لا يبخل علي تجميل بيته، رغم بساطته.. وبالذات الواجهات.. أقول ذلك لأن قانون المباني القديم الذي كان معمولاً به منذ منتصف الأربعينيات كان ينص علي تخصيص 5٪ من تكاليف المبني، تنفق علي تجميل المبني من الخارج.. وجاءت ثورة يوليو فتجاهلت كل ذلك.. ولم تلتزم به ولذلك وجدنا الحكومة وهي تبني المساكن للناس تطبق سياسة «تقشف معماري» فلم تهتم بالجماليات. وربما كان هذا ممكنا في المساكن الاقتصادية، ولكن لماذا تجاهلته في المساكن المتوسطة.. وأيضاً المساكن فوق المتوسطة. واعتمدت الحكومة في ذلك علي توفير الجانب «الاسكاني» فقط دون الاهتمام بالجانب الجمالي.. وهكذا انتشرت مساكن «علب الكبريت» التي تقف علي جنبها فقط.. وهنا اعترف أن شركة المقاولون العرب وبالذات في عهد المهندس ابراهيم محلب تمتلك جهازاً معماريا رائعا مهمته صيانة وترميم المباني العامة، وظهر هذا جليا في ترميمها لقصور عابدين والمنتزه ورأس التين وهو ما على حزب الوفد يستفيد بها في ترميم وصيانة مقرها الرئيسي في الدقي. هل مع عهد المهندس محلب رئيساً للحكومة يمكننا أن نستعيد جماليات العمارة المصرية؟.. أتمني ذلك من كل قلبي.