ثلاث من النسوة يحيطن بالجسد المنطرح فى استسلام على السرير الخشبى بيمين الغرفة .عرت كبراهن وتدعى هنومة صدر الشاب الذى يخدعك مظهره فتحسبه منسوبا إلى جيل يسبق عمره الحقيقى بعقدين كاملين فبان صليب من الجلد الملتهب والمحروق واصل بين حلمتى الصدر وساقط إلى الصرة . قالت واحدة من النسوة ترثى الشاب فى الخفاء «الطف بعبدك وأنت الكريم على الولايا يا حنان». ونطقت الأخرى وتدعى لوزة «أبونا ديمترى قس كنيسة العذراء رجل مبروك ويقال انه من أهل الخطوة ..وروت خادمات الكنيسة أن الشهيد مارى جرجس زاره أكثر من مرة ». خرجت الهمهمات من ابن هنومة غير مفهومة وحسبتها النسوة الواقفة خجلا من الشاب الذى يستحى كشف عورته أمام السيدات فى حين تساقطت دمعة من هنومة على صدر مرزوق الذى استمر فى همهمته غير المفهومة . قالت السيدة الثانية التى تتوسط الجارة المسيحية وهنومة أم مرزوق :«بللى القطنة بالسبيرتو الأبيض ومرريها على الجسد مخافة التقرح». جاءت سهام من الخارج فور انتهائها من العمل بمصنع اللبان الذى يملكه بسيونى بدرب الحلوانية . تنفرط خصلات شعرها للخارج وتفضح شفتاها آثار احمر خفيف قد مسح للتو، رمقت النسوة الثلاث فى الحجرة دون أن تلقى السلام واستدارت جهة غرفة تأوى البنتين . محظور عليها الدخول لمرزوق . إذا أخطات مرة ودخلت يصاب بالهياج وينطلق من رقدته كالثور يحطم ما يقابله دون مقدرة لبنى البشر على إيقافه . المرة الأخيرة تجمع شباب الحارة جميعهم ..كبيرهم وأوسطهم وأصغرهم ، ولم يسلم واحد منهم من أذى أحاط به ولم يستطع نفر إيقافه رغم الهزال الذى يبدو جليا على جسده الذى يتآكل يوما بعد الآخر . تعلم سهام طريقها جيدا فور انتهائها من العمل تتوجه لغرفة تجمعها مع بنتيها دون أن تهمس أو تلقى السلام . نصحهم الأب ديمترى فى مرة من مرات زيارة هنومة له ألا تدخل زوجته عليه ويفضل ألا يسمع مرزوق صوتها وعلل نصيحته بأن الجنية التى تهيم به كارهة لها وتحسبها عازلا بينه وبينها .لذا فالحرص مطلوب مخافة أن تلحق به «إيرينا» الجنية أى أذى. هنومة فقط من تستريح لها ايرينا الجنية العاشقة . ولا يعلم احد توقيت حضورها إلا الأم التى أعيتها حالة ابنها البكرى مرزوق .حين تنقلب نبرة صوت الوليد لتستحيل حشرجة أنثوية ملكومة تكون إيرينا حاضرة على الجسد الذى كان يسد عين الشمس بذكورته . تحاورها إيرينا تسأل عن صحتها وتؤكد لها هيامها بمرزوق ابنها . ذات مرة استيقظت الحارة على صراخ هنومة قبل الفجر بساعة واحدة بسبب الحوار الذى دار بين الأم والجنية التى تسكن جسد ابن هنومة الآدمى . تقول نسوة حارتنا إن هنومة فى لحظة صفاء جمعتها بإيرينا الجنية التى تنطق بلسان ابنها .سألتها هنومة عن سر تمسكها بجسد مرزوق ابنها فأجابتها الجنية بأنها تعشقه وأنها معه من الصغر حين أودعت هنومة مرزوق عند فرن الخبيز فى سطوح أم زينب ثم تركته لقضاء حاجتها . وقتها بكى ابن الشهور الخمسة وأخذ يبكى دون أن يجيبه أحد . فتقربت إيرينا خادمة المكان وأحاطته رعاية . وأنها تجسدت له قطة تشده بأسنانها وتؤرجحه كى يسكت وينقطع صراخه .وواصلت هنومة حوارها مع الجنية التى تسكن مرزوق: لكن أنت من جنس وهو من جنس؟ فردت الجنية إيرينا:«أنا عشقاه يا هنومة » فقالت هنومة :«لكن يا بنتى أنتى خربتى بيته وأبعدتيه عن زوجته وبناته» تقول نسوة الحارة وبالتحديد الحاجة أم سيد شفيقة التى كان تتهجد فى الليل وأول من جرى لنجدة جارتها هنومة إنها سمعت صراخا عرفته بقلبها الهائم بأولياء الله أنه صراخ لبنى الجن لا لبنى البشر .كانت الصرخة التى امتدت شاقة جناح ليل حارتنا تقتصر على كلمة وحيدة «عشقاه ». بكت هنومة فى حضرة الجنية العاشقة ترجوها أن ترحل بحق ربنا وتترك مرزوق لبناته وزوجته لأنه أضحى فى عداد الأموات والأشقياء .غير أن العاشقة العنيدة تملكها الغضب وقبضت بيد من نار على الحنجرة التى تنتحب . تقول باتعة الفار التى جرت مع الصراخ إن الحاجة أم سيد شفيقة أرسلها الله ببركة سيدى نوح الولى الذى يقبع ضريحه بزقاق يحمل اسمه لنجدة السيدة التى استسلمت حنجرتها ليد الجنية الفاجرة –هكذا لقبتها – وأكملت بعدما أقسمت بالله العظيم أن ما ترويه هو الصدق وان يقطع لسانها إذا كانت تكذب «شاهدها مرزوق الذى كانت الجنية تنطق على لسانه فأصابه الخرس .وجرى مذعورا بركن الحجرة متكوما يرتجف .أمسكت الحاجة أم سيد شفيقة بهنومة وتمتمت بعزة واثق «بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شيء فى الأرض ولا فى السماء ». ثم نظرت الحاجة أم سيد شفيقة إلى مرزوق الذى ظل يرتعد وقالت له وهى تخاطب الجنية التى غاب عنها عقلها «لماذا تنوين إيذاءها ؟!» فرد مرزوق بصوت أنثوى أشبه بعويل امرأة تستغيث «هى الل الل ل زعلتنى يا حاجة ..هى وربنا شاهد ..هى والله ...السماح يا حاجة ورحمة الغاليين .أنا عشقاه يا ستى ....والمسيح عشقاه » ردت السيدة التى عدلت طرف طرحتها :«والمسيح ..يرضى بما تفعليه وأمه البتول أم النور ترضى بتعديك علينا ؟» ردت الجنية وهى تنتحب ولا يزال الجسد الذكورى متكوما على نفسه :«عشقاه يا خالة عشقاه ...عاشقة مرزوق يا خالة ..والعشق بيد رب المسيح والعباد » قالت السيدة الطيبة الحاجة أم سيد شفيقة بحزم كسره طيب قلبها ورقته فكأنما ادعت الحدة واصطنعتها :«تعشقيه بأدب يا بنت الناس ومصرف القلوب ربنا » أنهت الحاجة أم سيد شفيقة كلامها وانطلق أذان الفجر من مسجد سيدى محمد الغزولى يرفعه الحاج خميس المحروق يبدؤه بتوحيد الله والصلاة على النبى العدنان ويواصل ابتهاله حتى يأذن الخالق برفع ندائه .انصرفت الحاجة أم سيد شفيقة فى صمت تستعد لأداء فريضة الله . *** «ثلاث سنوات يا أبا فراج وأنا مرتحلة من بلد لبلد ومن ولى لولى .اسأل أحباءك يا بدوى يخبروك بدوختى وحيرتى التى أعيتنى .ثلاث سنوات يا سيدى وقد مللت من الطب والحكما والأدوية .هائمة فى ملكوت الله تبحث عن خلاص للرجل الذى نحل بدنه وأهمل زوجته وابنتيه .ثلاث سنوات يا شيخ العرب من شيخ لمسجد لكنيسة .جسد الجدع انبرى يا صاحب الوشاح الأحمر .نفد المليمين اللي ادخرتهم للحاجة .وأملى فى شفا ضنايا خاب يا سيدى يا سيد .ثلاث سنوات يا حبيبى وأنا هائمة فى بلاد الله وأنت العالم بعد صاحب الملك انه لا رجل فى البيت إلا هو بعد رحيل أبيه بأربع سنين من مجيء مرزوق للدنيا .دلنى وأنت الدليل بنور الله يا بدوى .» كان صوت أذان العصر طريا على الأذن التى استعذبت النداء .لبت هنومة الدعوة ، نهضت تمسح خدا ألهبته دمعة أم تبحث عن دواء الوليد ، ثم أدت فرض الله مطمئنة. جوارها وقفت السيدة التى يطل النور من وجهها وتبتسم لصاحب الضريح, دست فى يد هنومة عشر ورقات فئة الخمسين جنيها .لكنها لم تشعر بملمس اليد التى أحاطت بيدها.وحين هم لسانها بالكلام كانت السيدة قد اختفت. قالت هنومة فى سرها «هى لن أتوه عنها وعن رائحتها.. هى الحاجة أم سيد شفيقة.. الله يرحم أمواتنا وأموات المسلمين». دست فى جيبها الورقات وغفت بجوار الضريح.