لا توجد معالم للزمن، فقط درج السلم، مع إضاءة شاحبة، بينما الخالة زكية ببدنها الممتلئ، جالسة على درجة من درجات السلم الرخامى، المكان أيضًا غير محدد، هو ليس مكان بيتنا، ولا درج بناية أعلمها، أنا وهى فقط، جالسة هى بينما أنا واقفة، كانت تبكى بكاءً حارقاً اخترقنى وسيطر علىّ، قلت لها: مالك يا ست زكية سلامتك؟... مش أنت ميتة؟ ردت الخالة: سبينى والنبى يا بنتى باللى أنا فيه. ثم عاودت تجهش فى البكاء، تخفى ملامح وجهها بين يدها، تحاول الهروب منى فى البكاء ومداراة الوجه بكفيها, وحين صحوت من نومى كان صوت أذان الفجر ينطلق من مسجد سيدى شبل الأسود والذى نسكن بجواره. قمت من النوم كل الحواس متحفزة، رائحة الخالة زكية تملأ أركان الغرفة. لم أود إزعاج زوجى، تحججت بالقيام للوضوء استعداداً لأداء الفريضة. عام ونصف على رحيل الخالة زكية، التى سكنت فى حارتنا، وظلت الحارة تحمل اسمها، بديلاً عن الاسم الذى حملته لها دفاتر العوايد والخفر والمساحة فى المحافظة، جميع الحارات والأزقة المجاورة تعرف الحارة بحارة زكية أبوحديدة، ولا أعلم وأنا أكتب رسالتى هل كان اسمها مدوناً فى بطاقتها الرسمية بهذا الاسم أم أن الاسم لقبها به أهل الحى لما تمتعت به من جبروت بين أهالى المنطقة. تحضرنى ذكراها وأنا فتاة فى مرحلة الجامعة، كنت أخشى أن أمر أمامها، متوسدة أريكة قديمة أمام باب البيت، أتوجس أن تتلفظ بلفظ خارج، سخرية منى، لا تترك أحداً فى طريقه يمضى دون أن ترميه بكلمة، تطلب من سيدة مارة أن تأتى لها بالخبز وأخرى تأتى لها بالفلافل، كانت لا تسب الناس إلا بأبشع الألفاظ. بينما أمى تراها بشكل مختلف رغم أن أمى تهابها، ذات يوم فات عليه قرابة خمسة عشر عاماً، كانت الحارة تتهيأ لعقد قران ماجدة بنت عم حمودة الأسترجى، نصب الرجال مسرح الكوشة، ورش الصبية النشارة بأرضية الحارة وقد خطوا عليه أول حرفين لاسم العريس والعروسة، وذاع الأهالى النبأ أن النجم الغنائى مصطفى حمادة هو من سيحيى الليلة، الحارة جميعها كانت متهيأة للفرح، وأثناء غناء الموال، نزلت الراقصة وسط كراسى الحضور بالحارة ترقص، كنت وأمى مراقب المشهد الاحتفالى والكرنفالى من شرفة بيتنا، وانتهى الفرح، وأثناء استعدادى أنا وأمى للنوم، سمعنا صراخاً فجرينا جهة النافذة، كانت الراقصة تصرخ والدماء تسيل من رأسها على وجهها، فزع جميع أهل الحارة، كان ممدوح العرنبى فى يده المطواة القرن غزال، وأمامه تيبست أطراف الراقصة تتوسل له أن يتركها تمضى لحال سبيلها، لم يجرؤ أحد من أهل الحارة الاقتراب من «العرنبى» الذى كان وصل لحد السكر، فوجئنا بالست زكية أبوحديدة تخرج من بيتها بملابس شفافة، وجسدها شديد الترهل، توقفت أمام «العرنبى»، وأقسمت يمين طلاق أن الفتاة ستبيت عندها، صرخ «العرنبى» وقطع فروة رأسه بالمطواة عجزاً عن فعل أى شىء، مر يومان وكنا نلاحظ الراقصة تبيت وتأكل فى بيت الست زكية. وهو الأمر الذى كنت أندهش منه وأقف منه حد الاستغراب، الست زكية بجبروتها وسبها للمارة، هى نفسها تتدخل لنجدة راقصة وتأويها ببيتها. الحق أن الست زكية رغم مهابتى لها، كانت تحترمنى، لا تنادى علىّ إلا بإضافة لقب أبلة، وعقب تعيينى بالتربية والتعليم بمدرسة سيدى شبل الأسود الابتدائية، كانت تطلب منى أن أوصى على أحفادها الأيتام من ابنتها. تكرر حلم الست زكية، تأتينى بنفس الهيئة، قصدت رجال الدين فى مدينتى، طلبت منهم أن يدلونى على ما يجب على القيام به، أحدهم أخبرنى أننى حملت أمانة مسئولية الجسر، الجسر البرزخى بين الأحياء والأموات، وصار على أن أكون على قدر مسئولية الأمانة، يومان ثم يوم ليعاود الحلم بنفس الشكل، الست زكية، الدرج، الزمن الملتبس، بكاؤها وحزنها وصمتها، كأنها تود منى شيئاً أن أقوم به لها، لكنى عاجزة عن الفهم والإدراك. فهل أجد عندك عزيزى المحرر حلاً لهذا الحلم اللغز. إلى صاحبة الرسالة: لا أخفيك أننى أمام رسالة هى الأولى من نوعها تحمل هذه التفاصيل حول عالم الميتافيزيقا والأحلام والرؤى، والراحلين عن عالمنا، دعينى أحكى لك أمراً حدثتنى به سيدة طيبة كانت تحب أولياء الله، الحاجة أم سيد شفيقة رحمها الله، وهى إحدى علامات شارعنا سيدى مرزوق بمدينتى طنطا، كانت معالم هذه السيدة التى اقتربت منها وهى فى الثمانين من عمرها، كيان من الجلد فقط بلا عظم، فكنت حين أسلم على يديها، أخشى من لين عظامها فأصافحها برفق، ذات مرة رأت أمى فى نومها سيدة من أهل الحى رحلت عن عالمنا، وقصت أمى الحلم على السيدة الطيبة، قالت لأمى وكنت جوارها: «يا فاطمة.. الأموات يعبرون من بوابتنا لبوابة أخرى، نحن محجوبون عنها وعنهم، لكنهم يروننا ويسمعوننا، والميت يقصد صاحب القلب الطيب، فيخبره بما يود أن يخبره به، الأرواح البشرية مثل المعادن، منها ما هو شفيف ومنها ما هو معتم، ومنها ما هو عاكس ومنها ما هو مطفى، يأتى الميت لرجل أو سيدة كشف الله له عن جزء بسيط من بوابة هذا العالم، يطلب منه مثلا أن يذهب لأبنائه ويخبرهم بسداد دين أو رد مظلمة، وقالت السيدة الطيبة رحمها الله لأمى: «لما تشوفى حد من الأموات فى حلمك اوهبى له لقمة فى بطن مسكين، صدقة تشيل عنه وتخفف ميزانه يا فاطمة».