أكدت المحكمة في حيثيات حكمها ببراءة المتهمين في آخر قضايا قتل المتظاهرين بدار السلام أنه لما كان الجزاء الجنائي هو أخطر الجزاءات جميعا لأنه يصيب الناس في أرواحهم وأشخاصهم وأموالهم وكيانهم الأدبي لذلك وجب التزام لحرص الشديد والتحقق الكامل والوصول إلى اليقين القضائي الأكيد . وهذا اليقين يستمد أساسه من أصل البراءة الذي هو أصل من أصول المحاكمات الجنائية .. وهو يضع عبء الإثبات الجنائي على عاتق سلطة الاتهام .. وأن الأحكام الجنائية تبنى على الجزم واليقين من الواقع الذي يثبته الدليل المعتبر ولا تؤسس على الظن أو الاحتمال من الفروض أو الاعتبارات المجردة . وكانت المحكمة بما لها من دور إيجابي في تحقيق الدليل في الدعوى الجنائية واتخاذ الإجراءات التي توصلها للحقيقة، قد تناولت الدعوى الجنائية الماثلة بجلسات عدة استعادت فيها شهود الإثبات الرئيسيين وغيرهم وناقشتهم في مضمون شهاداتهم وأتاحت ذلك للخصوم في الدعوى وصولا لليقين المتحد .. كما كلفت الفنيين المتخصصين بتفريغ محتويات الأسطوانات المدمجة التي تقدم بها شهود الإثبات والمتهمون وتحتوي على مشاهد لبعض وقائع الدعوى وشاهدتها بنفسها. وقد خلصت المحكمة باستعراضها لبعض وقائع القضية وما أحاط بها من ظروف وملابسات إلى عدم طمأنتها إلى صحة الاتهام القائم فيها قبل المتهمين .. بعد أن اختلج وجدانها الشك فيه .. وآية ذلك أنه وإن كانت أوراق الدعوى قد حملت دلائل مستمدة من أقوال شهود الاثبات وتحقيقات النيابة العامة إلا أن هذه الدلائل سرعان ما تبدلت بعد أن تناولتها المحكمة بالتحقيق والفحص وذلك لأسباب: أولا: أنه بينما شهد بعض شهود الإثبات بأنهم شاهدوا ضباطا وأمناء شرطة من وحدة مباحث قسم شرطة دار السلام وضباطا وجنودا من قوة القسم يؤازرهم بعض الأشقياء والمسجلون يطلقون أعيرة نارية بكثافة وبصورة عشوائية على المتظاهرين أمام ديوان القسم، قال بعضهم إنهم شاهدوا من بين هؤلاء الأشخاص، المتهمين الماثلين إلا أنهم عادوا وشهدوا بجلسات المحاكمة التي استمعت فيها المحكمة لأقوالهم بأنهم لم يبصروا أيا من المتهمين يطلق أعيرة نارية على المتظاهرين وأنهم لم يعاينوهم بموقع الأحداث أمام ديوان القسم، وأن ما شهدوا به بالتحقيقات كان نقلا عن متظاهرين آخرين لم يسمونهم أو يبلغوا المحكمة عن أسمائهم . ثانيا: أن باقي شهود الإثبات ال54 الذين ورد ذكرهم بأدلة الثبوت لم يشهدوا وقائع القتل أو الشروع فيه فكان منهم بعض ذوي المجني عليهم والبعض الآخر من الأطباء الذين قاموا بتوقيع الكشف الطبي على المجني عليهم فيما جاءت شهادات المجني عليهم والمصابين قاصرة عن بلوغ حد الكفاية اللازم للإدانة إذ قرروا إنهم لم يشاهدوا مطلق الأعيرة النارية التي أحدثت إصابتهم ولا يعلمون من أطلقها أو الأسلحة التي استخدموها . ثالثا: لم يكشف استعراض المحكمة لتقرير خبير المصنفات الفنية عن سمة دليل إثبات أو نفي وكل ما أظهره عرض تلك الأسطوانات ومشاهدتها بمعرفة المحكمة مظاهرة سلمية في النهار وعمليات كر وفر ليلا أمام قسم شرطة دار السلام بين فريقين، أحدهما يقف أمام ديوان القسم تحت أضواء الطريق العام، والآخر يقف بالقرب منه في منطقة مظلمة حيث يتبادلان إلقاء المواد الحارقة وسط أصوات متداخلة وإطلاق الأعيرة النارية يتدرج بين الكثافة والفردية ولم يظهر مطلق تلك الأعيرة ومن أي اتجاه أطلقت .. كما لم يظهر من خلاله أيضا أي من المتهمين الماثلين.. كما احتوت المشاهد آثار الاعتداء على القسم من تكسير الخشب والحوائط وآثار حرائق داخل القسم وخارجه وأشخاصا يحملون متاعا ومنقولات خارجين من ديوان القسم واحتراق إحدى سيارات الشرطة . رابعًا: ومن القواعد المقررة عدم مساءلة الشخص جنائيا عن عمل غيره ولابد من مساءلته على إذا كان قد ساهم بالقيام بالعمل المعاقب عليه فاعلا أو شريكا، كما خلت أوراق الدعوى من دليل يقيني تطمئن له المحكمة على مساهمة أي من المتهمين في جرائم القتل أو الشروع فيه المنسوبة اليه سواء كفاعل أصلي بظهوره على مسرح الجريمة وإتيانه عملا من الأعمال المكونة لها مما يدخله في نطاق المادة 39 فقرة 2 من قانون العقوبات بجعله فاعلا أصليا أو شريكا في الجريمة مع الفاعل الأصلي بإحدى الصور المنصوص عليها على سبيل الحصر بالمادة 40 فقرة 2 من قانون الإجراءات الجنائية وهي التحريض أو الاتفاق أو المساعدة . خامسا: خلت أوراق الدعوى من أي أعمال تحرى أو جمع استدلالات بشأن الجرائم موضوع المحاكمة وتقديمهما لسلطة التحقيق وهي النيابة العامة وهو الأمر المنوط بالجهات الأمنية المختصة بالدولة والتي كلفها القانون بالبحث والتنقيب وتقديم الأدلة الكافية وهو ما يعد تقاعسا من رجال الشرطة المختصة لعدم تقديمهم الأدلة للنيابة العامة للتحقق منها .