تطرق الشيخ يوسف القرضاوي في خطبة الجمعة الماضية الى الانتخابات في مصر، وقال كلامًا أعتقد أنه سيثير ردود أفعال سلبية . قال القرضاوي إن "التصويت فريضة شرعية وضرورة دنيوية"،ودعا المصريين إلى البحث عن الأحزاب التي تدعو إلى الخير و" تبتعد عن الكفريات والحرام " . وقارن القرضاوي ، بين التصويت في الانتخابات وبين أحكام الإدلاء بالشهادة في الإسلام قائلاً: "اشهدوا لمن يعترف بالخير والصدق والإسلام، ولا تشهدوا لعلماني، ولا للاديني، أو لمن لا يقبل بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً " . فتوى الشيخ يوسف صريحة في أنه يدعو المصريين إلى عدم التصويت للقوى السياسية التالية: * العلمانيين. * اللادينيين ، أي الملحدين.." أخشى أن يكون قد قصد الأحزاب اليسارية " * غير المسلمين، وهم في مصر المسيحيون حيث لا يوجد يهود حتى تشملهم الفتوى. بعد استبعاد هذه القوى الثلاث..ماذا بقي من الفئات والقوى المرشحة في الانتخابات ؟. بقى الإسلاميون بمختلف أطيافهم، وفتوى القرضاوي تدعو إذن للتصويت لهم وحدهم رغم أنه لم يسمهم بالاسم، لكن كلامه واضح ،فهم الذين أشار إليهم بأنهم أحزاب تدعو للخير وتبتعد عن "الكفريات والحرام". لا أعرف موقع "الفلول "من فتوى القرضاوي، فلم يرد ذكرهم صراحة، ولا ضمنًا فيها، فهل يستثنيهم ويضعهم مع الإسلاميين في دائرة من يجب أن يصوت لهم المصريون، أم أنهم مشمولون ضمن القوى الثلاث المشار إليها بتحريم التصويت لها ، فإذا كان "الفل" علمانيًا ،أو "لا دينيا"، أو مسيحيًا فإنه يطاله التحريم، مثلما يطال المرشحين من تلك القوى من غير "الفلول"، حتى لو كانوا ممن شاركوا في الثورة ، وضحوا من أجلها ، أو ناضلوا ضد النظام السابق. من غرابة فتوى القرضاوي ومن شكوكي في أنها يمكن أن تصدر عنه أنني بعد قراءتها على موقع "سي ان ان" لم أصدقها إلا بعد أن أكدها لي أحد الأشخاص الذين تابعوا خطبته كاملة، حيث لم أتابع إلا الجزء الأخير من الخطبة عبر تليفزيون قطر . أقول ذلك وأنا مصدوم في الشيخ الذي يقول إن الحرية مقدمة على تطبيق الشريعة ، والذي يعد نصيرا عتيدا للثورات العربية، وهو أكثر العلماء الذين يواكبون الثورات بحماسة بالغة، وخطبه وكلماته وتصريحاته كانت تشحذ همم الثوار في البلدان التي انتصرت فيها الثورات ، ومازالت كلماته تضخ دماء الإصرار والثبات في شرايين الثوار في البلدان التي مازالت الثورات مشتعلة فيها، وحديث الشيخ عن الثورات ودعمه لها لم يكن يفرق بين المشاركين فيها من إسلاميين وعلمانيين ومسيحيين وحتى لا دينيين ،فحديثه له صفة العمومية، لا يستثني ولا يحدد ولا يختص، فلماذا اليوم وبعد أن بدأت الثورة المصرية تخطو أول خطوة عملية نحو المراد منها وهو إجراء الانتخابات يزيح القرضاوي كل من شارك بالثورة ويفتي بحرمة التصويت لمن ترشح منهم ويختص الإسلاميين وحدهم بالتأييد والدعاية من فوق منبر الجمعة، حيث بذلك يدفع المترددين الى حسم خيارهم بالتصويت للإسلاميين بمنطق ديني بحت، وليس بمنطق المصلحة الوطنية ومن يستحق الصوت ومن لا يستحقه، وكيف للعالم الذي يقاوم الاستبداد والطغيان أن يكون إقصائيا الى هذه الدرجة، ولا يحتمل أن يشارك أبناء الوطن جميعا في صياغة المستقبل ويدفع المصريين إلى الانحياز لفصيل واحد فقط دون غيره عند التصويت . ألا يدرك الشيخ أنه ليس من مصلحة الإسلاميين أن ينفردوا بالبرلمان والحكومة وحدهم، بل مصلحتهم في شراكة وتوافق مع كل القوى السياسية على الساحة في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ مصر. إذا استبعدنا الملحدين ، فإننا سنجد بين أحزاب العلمانيين والليبراليين من يدعو ل "الخير ويبتعد عن الكفريات والحرام " - حسب مقاييس القرضاوي لمن يجب التصويت له -، بل إنني لم أجد بين الأحزاب المتنافسة من يدعو إلى الكفريات والحرام، وألا يكفي برهانًا أنها كلها تؤيد المادة الثانية في الإعلان الدستوري الخاصة بالشريعة الإسلامية، وكلها متفقة على أن تكون نفس المادة موجودة في الدستور الجديد، كما تتفق على أن مصر دولة دينها الإسلام، وفي نفس الوقت سنجد بين المرشحين العلمانيين من يعترف بالخير والصدق والإسلام، فليس من حق أي شخص مهما كان أن يشكك في إسلام أي مرشح علماني ، الأصل أن المرشح المسلم أيا كان توجهه السياسي لا يحق لأحد منحه شهادة بكونه مسلمًا أو حرمانه منها، أما صحة الإسلام والاعتقاد ودرجة الإيمان فهي مسألة متروكة لله وحده . وبالنسبة للخير والصدق، فهي صفات نسبية قد تختلف من شخص لآخر، وهنا أقول إن الإسلاميين الذين دعا لهم القرضاوي بالتصويت دون غيرهم قد يكون جانب الخير والصدق في بعضهم أو في كثير منهم أقل من العلمانيين والليبراليين ، فليس بالضرورة أن كل إسلامي هو ملك طاهر، كما أنه ليس بالضرورة أن كل علماني هو شيطان مريد. مثار استغرابي من فتوى القرضاوي أيضًا أنه قد سبقه بأيام أحد دعاة السلفيين وحرم في فتوى له التصويت لنفس الفئات والقوى التي أشار إليها القرضاوي يوم الجمعة الماضي، ولم ألق بالاً بما قاله هذا السلفي لأنه بغير وزن ولا تأثير كبير إلا بين أتباعه ، وقلت ساعتها إنها من ضمن شطحات بعض دعاة السلفية المستجدين على العمل السياسي ، وإنهم مع التدريب سيتطورن ويتسيسون ويكتشفون أن الدين لا يجب أن يكون مرتبطا دائما بالسياسة والفتوى، لأن السياسة تفسد الدين أحيانا، وتشوهه في أحيان أخرى، لكن أن يأتي القرضاوي بما له من ثقل ومكانة وفقه واجتهاد ويسير في فتواه على خطى هذا الشيخ السلفي فهو الأمر المستغرب والمستهجن والمحير في شيخنا الوسطي المعتدل الذي ألقى خطبة رائعة في جمعة الاحتفال بانتصار الثورة بميدان التحرير وكان ودودًا في حديثه عن القوى السياسية المشاركة في الثورة وكذلك عن الأقباط وإشادته بدورهم في الثورة وتضحياتهم وحمايتهم للمسلمين وهم يصلون بالميدان . اليوم يفجر القرضاوي جرحًا طائفيًا ووطنيًا آخر، فالفتوى بلا شك ستصيب كل مرشح مسيحي بالألم والغبن لأنها ستحرمه من صوت مسلم كان يفكر صاحبه في إعطائه له، وستقسم الفتوى المصريين على أساس ديني بين مسلم وغير مسلم، ويمكن أن يكون هناك رد بألا يصوت المسيحي للمرشح المسلم ، وهكذا يزداد تمزق الوطن والمجتمع على أساس ديني وطائفي خطير . ثم ماذا يقول القرضاوي عن المسيحيين الأعضاء بحزب الإخوان "الحرية والعدالة"، وحزب " الوسط "، والأحزاب الإسلامية الأخرى، هل وجودهم فيها حرام أيضًا ويجب طردهم ، وهل يغذي القرضاوي بذلك ما يقوله البعض من أن وجود الأقباط مجرد ستارة لتنزع هذه الأحزاب تهمة أنها أحزاب دينية طائفية ، وهل سيبقى الأقباط في الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أم يغادرونها طالما أن المرشد الروحي لتلك الأحزاب يفتي بعدم التصويت للمسيحيين، وما هو الموقف من القائمة الإسلامية التي بها مسيحي، ألا يتم التصويت لها أيضًا، وما هو الموقف من المرشح المسيحي الفردي المدعوم من الإخوان أو السلفيين هل يحرم التصويت له كذلك؟. أتصور أن الفتوى الدينية في قضية سياسية حياتية بشرية تحتاج إلى التأني والدرس العميق حيث قد يكون لها أضرار خطيرة على السلام الاجتماعي وعلى التعايش بين الشركاء السياسيين في المجتمع، وأتصور أن تخوفات التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية ومعهم المسيحيون من الإسلاميين قد تتزايد الآن ،لأن خطاب القرضاوي الدعائي للإسلاميين وحدهم وتحريم التصويت لغيرهم يجعل القوى الأخرى تقول إن هواجسنا حقيقية، وليست مجرد ظنون ، وإن الإسلاميين يناورون لخطف الدولة المصرية بصندوق الانتخاب وتجييرها وفق خططهم وأهدافهم . أدعو فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي لتوضيح فتواه إذا كان النقل عنه غير دقيق، أو التراجع عنها إذا كان هذا ما قاله لأنه يضر بنفسه وبمكانته وبقيمته وبوسطيته وباعتداله وانفتاحه، كما يضر بالإسلاميين ضررًا بليغًا من حيث أراد أن يخدمهم.