«جبتلنا معاك الخير كله».. أغنية شهيرة عن رمضان أسمعها منذ عقود وعقود، ولكن لأول مرة أشعر بمذاق خاص لها عندما قضيت يوماً رمضانياً فى المقابر.. هناك وجدت أحوالا، ووجوها مختلفة، وسعادة لم أعهدها عند سكان المقابر.. وكلمات تستحق أن تصبح أقولاً مأثورة.. من بينها قول أحد سكان المقابر «المصريين بيصوموا شهر واحد فى السنة (يقصد شهر رمضان).. وإحنا (يقصد سكان المقابر) بنصوم 11 شهراً وبناكل فى رمضان بس»! إنه «رمضان».. الشهر المدهش، الذى يتجلى سحره فى المقابر، حيث يتحول من شهر الامتناع عن الطعام والشراب طوال النهار، ليصبح «بابا نويل» السعادة، وأكبر صانع للبهجة فى مدن الموتى الشهيرة باسم المقابر! ذهبت للمقابر وقرص الشمس يكاد أن يسقط فى دوامة الغروب، ولم يكن يفصلنا عن آذان المغرب سوى أقل من ساعة، وعندها اتصلت بأحد مصادرى من سكان مقابر باب النصر، وبدون مقدمات طلبت منه أن أتناول معه طعام الإفطار.. وبعد السلام والتهانى بشهر رمضان، اعتذر الرجل لوجوده خارج المقابر فى زيارة أسرية، وبشهامة المصريين أقسم على أن نتناول معاً طعام الإفطار يوم الجمعة القادم عندما يعود من زيارته الأسرية.. شكرته على كرمه، وعاودت الاتصال بأحد سكان مقابر البساتين، وكانت المفاجأة أنه أيضاً «معزوم بره» على حد قوله!.. وعرض علىَّ أن نتناول الإفطار فى أى يوم آخر أحدده.. ومن جديد شكرته، واتصلت للمرة الثالثة بأحد سكان مقابر التونسى، فالغريب أننى وجدته معزوماً هو الآخر! «إيه الناس كلها فى المقابر معزومة بره ولا إيه».. هكذا حدثت نفسى، وكان على أن أختار.. هل أعود من حيث أتيت؟.. أم أكمل المشوار «ورزقى على الله.. واخترت الثانية، وتوجهت إلى مقابر (المجاورين)، وقررت ألا أحمل معى طعاماً ولا شراباً، لكى أكل مما يأكلون، وأشرب مما يشربون. كانت الشمس قد انكسرت حرارتها بشكل كبير، وتحول قرصها الملتهب إلى اللون الأصفر الشاحب، وبدأ ت نسائم الغروب تلفح الوجوه، فتخفف عنها لسعات الحر. دخلت مقابر المجاورين، فاستوقفنى مشهد شوارعها.. كان أغلب الناس يجلسون على جانبى الطرق، وعيونهم تتعلق بكل سيارة تمر، وكل غريب يقترب منهم. توجهت مباشرة إلى أحد الجالسين.. رجل ستينى ممتلئ الجسد، يجلس على كرسى بلاستيك أخضر وفى إحدى يديه عصا، من الواضح أنه يتوكأ عليها فى سيره.. بابتسامة كبيرة قابلنى ورحب بى، وشعرت أن عينيه تريدان أن تقولا شيئاً، ولكننى لم أستطع أن أدرك ما يريد أن يقوله.. وبعد السلام والتعارف انفجر فى الضحك بصوت عال.. أدهشتنى ضحكاته العالية، فلما لاحظ دهشتى، قال: «بصراحة وانت داخل علىٌ كنت متصور أنك هتدينى شنطة رمضان.. ولكنى لقيتك بدل ما تدينى شنطة، عاوز تفطر عندى».. قال الرجل عبارته وعاد يضحك بصوت عال ويهتز جسده من كثرة الضحك. ضحكاته العالية جعلتنى اضحك أنا أيضاً، وقلت يعنى فيه أكل ولا أمشى.. فقال بصوت حاسم: تمشى إزاى رمضان كريم.. فطارك عندى إن شاء الله. جلست إلى جانبه، وبينما كانت عيناه تتفحصان كل سيارة تمر أمامنا سألته: يعنى كل الناس اللى قاعدة على جانبى الطريق، منتظرة شنطة رمضان من فاعل خير؟.. قال محمد أنور حسين (وهذا هو اسمه): أه.. وتابع كلامه: «رمضان شهر الخير.. وأولاد الحلال كتير.. ورمضان اللى فات كل أسرة فى المقابر جالها ما بين 10 و15 شنطة فى رمضان فيها من كل خيرات الله.. والحمد لله ربنا ما بينساش حد». سألته: فاضل على المغرب دقائق.. وما زلت تنتظر شنطة فاعل الخير.. طيب لو مجتش الشنطة؟ فقال: «ربنا يبعت.. ولو مجتش شنطة النهاردة، إحنا عندنا أكل والحمد لله» سألته: عندكو أيه؟.. وبمجرد أن سألته، اقتضب حاجباه، وقال «عندنا بامية» .. ثم صرخ غاضباً «الأسعار نار، ومقدرناش نجيب غير ربع كيلو بامية، ونصف كيلو قوطة وبصل وشوية جبن، وللأسف مقدرناش نجيب ليمون علشان نعمل شوية ميه بليمون.. دا كيلو الليمون ب40 جنيه». وتابع: أنا ساكن فى الحوش اللى ورايا منذ 35 عاماً.. وكنت أعمل سائق سيارة.. ولما كبرت، بعت العربية، وصرفنا فلوسها على الأكل والشرب وعلى مصاريف أحفادى الثلاثة الذين يقيمون مع والدهم وزوجته فى ذات الحوش.. ويبدو أن شعر أن كلامه قد يوحى بأن الإفطار الذى أعدته زوجته لن يكفى أساساً أسرته (نصف كيلو بامية على 7 أفراد).. فسارع بالاعتذار وقال- بشهامة أولاد البلد: متفهمنيش غلط.. الأكل الموجود هيكفينا وزيادة.. ورمضان كريم.. بس أنا زعلان من الأسعار المولعة دى». كنا نتحدث، وإلى جوارنا يجلس «جمال حسن» رجل ستينى قمحى البشرة، وكان هو أيضاً فى انتظار «شنطة أهل الخير»، رغم أن حالته المادية أفضل كثيراً عن حال «محمد أنور»، فهو على الأقل كان يعمل ميكانيكى فى هيئة النقل العام ويحصل على معاش 1250 جنيهاً.. ولكنه يشعر باسى على معاشه الهزيل ويقول «كان راتبى 3000 جنيه، وكنت يا دوب عايش.. الآن أنا باعيش على 1250 جنيهاً.. ازاى معرفش.. وكمان فوق كده الأسعار مبترحمناش». كانت الدقائق تمر وأذان المغرب يقترب، فاستأذنت عم «أنور» بالانصراف.. فقال «ميصحش كده.. الفطار خلص بعد دقائق».. فقلت مبتسماً «معلش أنا مابحبش البامية.. فضحك الرجل، وقال ربنا يبعت من عنده.. عموماً أنا ساكن فى الحوش دا»، وأشار إلى حوش المقبرة التى يجلس أمامها- فى أى وقت الحوش حوشك»! ربنا يبعت «ربنا يبع».. هذه هى كلمة السر، لدى سكان المقابر طوال شهر رمضان.. وتشعر وأنت تسير فى شوارعها أن الكل ينتظر «ربنا يبعت».. وأمام أحد أحواش مقابر المجاورين.. استوقفنى منظره.. شاب ومن حوله 3 أطفال صغار يحملون مسحة من الجمال على بشرة شقراء.. اسمه رمضان محمود–شاب ثلاثيني- ولكن الزمان رسم على وجهه الكثير من خطوط الطول ودوائر العرض! «رمضان» ارزقى– كما قال لى– ويعيش بالكاد.. شكا رمضان من ارتفاع الأسعار، ومن إهمال المسئولين، ومن متاجرة الصحف بآلام سكان المقابر.. وقال: «من سنين والصحافة بتكتب عن معاناة سكان المقابر.. ومفيش حاجة حصلت، ولا حد عمل حاجة لسكان المقابر، فى حين أن فيه ناس أخذت شقق جديدة من سكان العشوائيات رغم أنهم لا يستحقون لأنهم يمتلكون شققا أخرى». كان «رمضان» يرتكن إلى جدار الحوش الذى يسكنه مع أسرته، متحدثا والحزن يكاد يعصر قلبه، وفجأة توقفت أمامنا سيارة فارهة، وخرج منها ثلاثة رجال يرتدون ثيابا بيضاء ويبدو عليه أثار الثراء والتقوى، وفى لحظات قفز إليهم رمضان، فأعطوه من خيرات الله، طعاما ونقودا، فأخذها وأمطرهم بسيل من الدعوات، فانصرفوا، وأسرع هو داخلا إلى حوشه وتبعه أطفاله الصغار اصحاب البشرة الشقراء، وانتظرت أن يخرج لى ولكن يبدو أن الفرحة قد أنسته كل شىء! الفوز العظيم وكلما اقترب موعد أذان المغرب، كانت أعداد أهل الخير تتزايد، على سكان مقابر المجاورين.. جمال محمد– منياوى يقيم فى المقابر منذ 25 عاما كما قال لي- كان من بين الفائزين بشنطة من أهل الخير.. وقال وهو يبتسم «رمضان شهر الخير فى المقابر.. الخير على الكل.. والخير للكل.. وأولاد الحلال كتير». ويبدو أنه أراد أن يؤكد لى انه مستور الحال.. فقال «الحمد لله شنط الخير دى نعمة ربنا فى الشهر الكريم، وميصحش نرفضها». وتابع « انا عندى فى الحوش فطار فاصوليا وملوخية ولحمة وارز.. والحمد لله.. وعازم كل أولادى وبناتى يفطروا عندى» وواصل «إتفضل إنت كمان معانا.. انت وزميلك المصور.. بس مفيش تصوير علشان البنات بتزعل « شكرته واستكملت سيرى وسط المقابر السيدة عائشة وقايتباي للحظة تخيلت أن حكاية شنط رمضان يمكن أن تكون مقصورة على سكان مقابر المجاورين وحدهم، ولهذا تركت المجاورين، وتوجهت إلى مقابر السيدة عائشة، وهناك وجدت شنط اهل الخير تسبقنى، ووجدت عشرات السيارات توزع شنط رمضان على الجالسين على جانبى الطريق من سكان المقابر.. كل أغلب الشنط تحوى كيلو لحمة وكيلو ارز وكيلو سكر وباكو شاى وزجاجة زيت صغيرة.. وكان البعض يوزع وجبات ساخنة أرز ولحمة وفاصوليا وسلطة.. الوجبة تكفى فرد أو اثنين على الأكثر، ولكنها فى المقابر تكون وجبة الاسرة بالكامل.. وبتكفى الأسرة– كما قال لى بدر كامل- أحد سكان مقابر السيدة عائشة. وأضاف: «رغيفين عيش وحتة جبنة جنب الوجبة دى بتكفينى أنا وزوجتى وأولادى الأربعة.. وبنحمد ربنا.. وربنا يديمها علينا». ومن مقابر السيدة عائشة إلى مقابر قايتباى، كانت الأحوال متشابهة لدرجة كبيرة. وبحكمة السنين قال كامل إسماعيل–الذى يقيم فى مقابر قايتباى منذ 60 عاما– «الناس هنا فى المقابر تتمنى ان تكون السنة كلها رمضان.. علشان الخير اللى فيه». وتابع «الناس بتصوم شهر واحد فى السنه، وهو شهر رمضان، لكن إحنا هنا فى المقابر بنصوم 11 شهر، وبناكل بس فى رمضان .. ربنا يدموا علينا». فى ضيافة أم البنات كنت فى قلعة قايتباى.. ولم يكن يفصلنا عن موعد الإفطار سوى 5 دقائق فقط ، وبينما كنت أفكر أين أفطر، فوجئت بسيدة فى نهاية الخمسينات، اسمها زينب عبدالعزيز- 56 عاما–أحد سكان مقابر قايتباى، تقترب منى بابتسامة مريحة، وهى تقول «أنتم أغراب» تقصدنى انا وزميلى المصور يبقى لازم تفطروا عندنا. لم يكن الوقت يسمح لى أن أعتذر، ولم أجد ما اقوله لها إلا « كتر خير».. فردت على الفور «الخير خير ربنا.. أهل الخير بيوزعوا شنط على الكل هنا( تقصد مقابر قايتباى).. وأنا أخذت النهاردة شنطتين لحمة وأرز ولوبيا من أهل الخير، يعنى الخير سابقكوا ورزقكوا جاء قبلكو.. اتفضلوا». توجهت وزميلى المصور إلى الحوش الذى تقيم فيه، وأما حوش الدرينى وقفت، وقالت «تزوجت فى هذا الحوش، وأنجبت فيه 3 بنات، وتوفى زوجى تاركا فى أحشائى جنين خرج إلى الدنيا، بعد شهرين من وفاة زوجى، وكانت المولودة بنت أيضاً». وتابعت: كان عمرى وقتها 21 عاما، وصرت مسئولة عن 4 بنات، ولا أملك من حطام الدنيا شىء، وكان صاحب الحوش الحاج الدرينى الكبير رحيما بنا فأوصى ابناءه بان أظل مقيمة فى الحوش مع بناتى مدى الحياة وقال لهم « زينب تفضل فى الحوش العمر كله ودى وصيتى». وواصلت «عملت خياطة وخدمت فى البيوت، وربيت بناتى الأربع والحمد لله اتجوزوا». كانت زينب تروى حكايتها ونحن أمام الحوش، وفجأة واصلت السير، وطلبت منا ان نتبعها.. وقال: «ولاد الحاج الدرينى نسيوا وصية ابوهم ورمونى بره الحوش». سألتها: ورحت فين؟ فقالت «أجرت اوضه على سطوح عمارة وسط المقابر ب 150 جنيه فى الشهر، وقاعده فيها انا وبناتى وأحفادى السبعة.. ربنا كتب علينا أن اتنين من بناتى يطلقوا ويعيشوا معاى مع اولادهم.. وربنا مبينساش حد». أردت ان أخفف عن مضيفتى همومها، فسألتها : هتفطرينى إيه يا حاجة زينب.. فقالت مبتسمة». عندنا ارز ولحمة ولوبيا، وكمان فيه بطاطس وسلطة.. وكله من خير ربنا. دخلت وزميلى المصور حجرة الحاجة زينب.. وكانت ابنتاها قد انتهيتا بالفعل من إعداد الطعام.. وبدأتا فى تفريغ الأرز والشوربة فى الصحون.. وكانت المفاجأة أننا لم نجد مكانا نجلس فيه فالجدة زينب وبناتها وأحفادها وسرير قديم وتليفزيون قديم ودولاب متهالك وثلاجة قديمة جدا.. كل هؤلاء يشغلون كل فراغ الحجرة التى يعيشون فيها وسط المقابر.