نقيضاً للسياسة التي انتهجها الرئيس المخلوع حسني مبارك، يبدو أن الرئيس محمد مرسي أعرب بشكل واضح عن رغبته في الخروج من العباءة الأمريكية والغربية ليتخذ من المشرق "قبلة سياسية" جديدة تعبر عن عهد جديد. وفي أول زيارة له - خارج الإطار العربي والأفريقي - جاءت زيارة مرسي إلى الصين، وهي الزيارة التي تعبر عن إرادة مشتركة بين الطرفين في تعميق علاقات سياسية واقتصادية من نوع آخر وبشكل مختلف ولأسباب مختلفة. للقاهرة مكاسب على الجانب المصري، عبرت الزيارة عن رغبة عميقة في كسر الاحتكار الأمريكي للمقدرات المصرية سياسياً واقتصادياً، وتهديداً قوياً للإدارة الأمريكية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لمصر حرصاً على "شعرة معاوية" التي تربط بين البلدين خاصة في ظل وجود "القوى العظمى" البديلة للولايات المتحدة. التخلي عن الولاياتالمتحدة - ولو بقدر ضئيل - قد يعود بمصر إلى دور ريادي جديد في المنطقة، وهو ما ستعمل الصين على المساهمة في دعمه، من أجل محاصرة القواعد العربية المتأمركة في المنطقة والحد من استحواذ أمريكا على معظم المنطقة. صحيفة "شيكاغو ترابيون" الأمريكية حذرت - في تقرير لها - من أن نجاح الرئيس مرسي في تحقيق الأهداف المرجوة من زيارته للتنين الصيني، يعني بداية النهاية للنفوذ الأمريكي في المنطقة، ويزيد تعقيد العلاقات مع الولاياتالمتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط .. في حين اعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن زيارة مرسي إلى بكين بمثابة إعادة توجيه للسياسة الخارجية المصرية. إضافة إلى ذلك، فإن مصر تبحث عن داعم اقتصادي خلال الفترة المقبلة للخروج من أزمتها الحالية وهو ما تم الاتفاق عليه بالفعل حيث قررت الحكومة الصينية ضخ استثمارات في مصر بقيمة 5 مليارات دولار بعد أن كانت الاستثمارات الصينية لا تتجاوز نصف مليار دولار. ولا تتوقف مكاسب الخروج من العباءة الأمريكية .. ففي الجنوب من مصر بدأ النشاط الصيني منذ فترة .. ففي السودان شماله وجنوبه دخلت بكين بقوة لبناء عدد من السدود للاستفادة منها في توليد الطاقة الكهربائية - وإدارة مشروعاتها - وهو ما قد يؤثر مستقبلاً على حصة مصر في المياه أو التلاعب مع مصر سياسيا بورقة الموارد المائية ، وهو ما يحتم خلق حالة من توازن المصالح الصينية في البلدان الثلاثة "مصر والسودان وجنوب السودان" . وللصين مكاسب أخرى على الأراضي الصينية، أتت الرغبة المصرية بتوطيد العلاقات لتلبي طموح بكين في التوسع السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط والبحث عن بديل لنظام بشار الأسد خاصة في ظل بوادر انتصار الثورة السورية وسقوط الحليف "العلني" الوحيد لها وفي ظل بحثها الدؤوب عن "الإرث الأمريكي" في المنطقة وما يعنيه ذلك من زيادة حجم الاستثمارات والتبادل التجاري ووضع اليد التدريجي على "كنوز الشرق". الصحف الصينية من جهتها، أولت زيارة الرئيس مرسي اهتماما كبيرا، حيث أشادت صحيفة "جلوبال تايمز" الصينية التي تصدر من بكين بالزيارة التي يقوم بها مرسي إلى بكين معتبرة أنها تحظى بأهمية خاصة لدى السلطات الصينية التي تقدر اختيار بلادهم لتكون الوجهة الخارجية الثالثة بعد المملكة العربية السعودية وأثيوبيا، مشيرة إلى أن الزيارة التى تقوم بها "مصر الثورة" إلى الصين تأتي للاستفادة من النموذج الصيني في التنمية. ونقلت الصحيفة الصينية عن "لي جوفو" الباحث في معهد الصين للدراسات الدولية قوله: إن الزيارة تعتبر بمثابة اقرار للتحول الجذري في السياسة الخارجية لمصر التي كانت ولفترة طويلة مقتصرة بشكل تقليدي على "معسكر واشنطن"، كما أكد الباحث الصيني أن مصر أصبحت دولة تريد التأكيد على مكانتها الإقليمية. وأضاف "لي": لا غرابة بهذا التصرف من حيث الاستقلال بسياستها الخارجية، فالقاهرة الجديدة تخلع عباءة التبعية للقوى الدولية التي كانت حبيسة لها خلال الثلاث عقود السابقة، مؤكدا أن الزيارة تعكس أيضا حقيقة أن مصر تقدر الدور الذي تلعبه الصين في العالم. يبدو أن الفترة القادمة ستشهد تغييرا جذريا في علاقات عدد من الدول مع بعضها وتغييرا جذريا في شكل التحالفات والتكتلات الدولية، فها هي مصر تخرج من عباءة أمريكا لتعود مرة أخرى إلى بلاد مشرقها، في حين يبدو أن الصين ستتخلى عن بشار الأسد بعد أن وجدت البديل الأنسب .. وستتوالى التغييرات في سنوات قليلة قادمة.