العسكر ومركزية الدولة: بعدما أخفقت الملايين التي خرجت إلى الشارع يوم 25 يناير 2012 في إسقاط المجلس العسكري وإزاحته من سدة الحكم وجعلها البديل عنه في حكم الدولة، وإنهاء 60 عاما من جعل العسكر هم البديل عن الشعب وليس إكمالا لهم في إدارة الدولة. وهنا تكون الثورة قد أسست لحقبة جديدة أنهت خلالها ماقامت به ثورة يوليو من وصول العسكر إلى سدة الحكم، لكن الثورة اكتفت حتي تلك اللحظة المباشرة أن تجعل من نفسها ثورة ضد السلطة كما حدث في أميركا الجنوبية حين تمكنت الثورات من تغيير بعض الحكام المستبدين دون أن يصاحب ذلك إحداث تغييرات أساسية في أنظمة الحكومة أو البنية الاجتماعية للدولة، وفي العديد من الحالات تم انتقال هذه الثورات إلى مراحل أعلي، قتحولت إلى ثورات سياسية أو اجتماعية، وهو ما نطمح أن تقوم به الثورة المصرية. إلا أن الخروج الحاشد يوم 25 يناير الماضي أرسل رسالة حول وضع المؤسسة العسكرية ودورها في طريق المسار الديمقراطي، بدا واضحا من تلك اللحظة أن الثورة مستمرة، لكنها غير قادرة على إسقاط احد أعمدة نظام مبارك الرئيسية، وهنا فرق أساسي وجوهري بين الجيش وهو مؤسسة وطنية منذ إنشائها في عهد محمد على، تحظي بالحب والتقدير، وبين المجلس العسكري الذي أتي بانقلاب ناعم على السلطة وتوليه لمقاليد الحكم في 11فبراير 2011 وجعل نفسه البديل عن الشرعية الشعبية. وهنا يبرز مدي توغل المؤسسة وقوتها في المحافظة على النظام القائم وإجراء عمليات إصلاحية هيكلية من خلال عمليات ترميمية من داخل النظام ذاته دون إجراء تغيير كلي يضعف من مكانتها ومركزيتها داخل النظام، ولعل تدخل المؤسسة العسكرية في مسار الدولة هذا أمر موروث من الدولة العثمانية في فتح الباب أمام النخب العسكرية للتدخل في الشئون السياسية وممارسة السلطة وهو ما كرسته ثورة 52 وأصبح واضحا على نطاق العالم العربي أن معظم الانقلابات التي تمت أتت بعسكريين إلى السلطة. وهذا يعني صعودها إلى قلب المشهد وإدراته، مع وجود فارق يميز المؤسسة العسكرية المصرية فهي تتسم بالقدم وارتباطها بمركزية الدولة، فالدولة أنشأتها وأصبغتها بطابع الشمولية، فهي مركزية شمولية تسعي إلى الاستقلال الذاتي والتفرد وحسم الخلاف لصالحها وتقديم الموقف السلطوي على الموقف السياسي وحسمه. ومع صعود تلك المؤسسات إلى الصدارة تحولت مع مرور الوقت إلي طبقة لها مصالحها وامتيازتها الخاصة التي تدافع عنها، وعلى رأسها: 1. شمولية التوغل والتكوين في أجهزة الدولة. 2. المصالح الاقتصادية. 3. أصبحت المعادل الرئيسي في عملية التوازنات السياسية وحسم الصراع لذاتها. لقد تم تحويل الجيش منذ 52 من إرادة للتغيير إلى نموذج في بناء السلطة والمجتمع، بمعني آخر عسكرة الحياة المدنية، وأصبح العسكر هم الدولة وأصبحت الدولة هي العسكر، في خلط واضح وتماه تام بين الدولة وبين المؤسسة العسكرية، وقد تم تقنين هذا الوضع وتغليفه بصبغة مدنية من خلال ممارسة العمل السياسي في إطار حزبي، من خلال التجربة الناصرية. وإن سبقته إجراءات قمعية أفضت إلي وجود حزب واحد يهيمن على الحياة السياسية ويحتكر أدوات عملها، وبدا ذلك أكثر تمثيلا في عهد السادات حينما أنشأ الحزب الوطني الديمقراطي وتم تدجينه برجال العسكر وتوغلهم في إطاره، وهنا بدا واضحا ممارسة السياسة من خلال غطاء مدني، ومع الانفتاح الاقتصادي وتصدير مفهوم الدولة الحديثة ومركزية السوق داخلها وتصدير مقولات الديمقراطية (مدنية الدولة) وما تبعه ذلك من تحديث للأحزاب الشمولية يإدخال عدد من العناصر المدنية في هيكلها الداخلي. وقد تزامن هذا الانفتاح الاقتصادي مع التحضير لاتفاقية كامب ديفيد وماتبعها من تصفية القطاع العام وهيمنة القطاع الخاص وبالذات وجهه الطفيلي والتيسيير لرؤوس الأموال الأجنبية على حساب الصناعة الوطنية ومكتسبات العاملين المصريين وضرب علاقات مصر الخارجية، وما انعكس على فروع الصناعات الحربية وغير الحربية حولت الجيش إلى الأعمال المدنية. وبالتالي أصبح هناك تكوينا طبقيا للسلطة، وانتقلنا من فترة التمييز العرقي إلى فترة التمييز الاقتصادي، وساد جو العداء للديمقراطية وأشكالها المختلفة، وقد اصطبغ جهاز الدولة بهذه الصبغة البيروقراطية والتي أثرت على أدائه وسلوكه على كافة المناحي والاتجاهات، ولقد استطاعت الثورة الفرنسية أن تنتبه لهذا الامر مبكرا؛ إذ عرفت أعداءها اجتماعيا (الارستقراطية) بينما الروسية عرفتهم: اجتماعيا/ الرأسمالية/ الثورة المضادة. وقد اجتمعت هذه الطبيعة في المؤسسة العسكرية الحالية متمثلة في المجلس العسكري من خلال هيمنته على مناحي الدولة افتصاديا وسياسيا، فهناك إمساك بمفاصل الدولة والتغلغل في جميع مؤسساتها، فهناك عسكرة تامة لأمانة مجلس الوزراء فكل المحيطين برئيس الوزراء هم لواءات جيش، إلى جانب رئيس الحي ورئيس المدينة والمحافظ ورئيس النادي ورؤساء مجالس إدارة الشركات، والمحليات.....إلخ. وهنا يقفز إلى العقل التشابة الحقيقي بين المؤسسة العسكرية المصرية والمؤسسة العسكرية الجزائرية مع فارق النشأة، فجنرالات الجزائر يمسكون بمفاصل الدولة ويتغلغلون فيها، فالحاكم العسكري هو المسئول عن المحافظة (يقابله المحافظ العسكري في مصر) وتحولهم إلى طبقة لها مصالحها الاقتصادية التي تدافع عنها إلى جانب احتكارها لآليات القوة وعملها. وهناك نقطة تشابه أخري تمثلت في ممارسة المجلس العسكري للسياسة من خلال غطاء مدني بدا ذلك واضحا في وثيقة السلمي، ثم تبنيه لإنشاء العديد من الأحزاب بهدف ضمان الولاء، وهو نفس الفعل الذي قامت به المؤسسة الجزائرية من خلال إنشائها لعدد من الأحزاب المدنية، فخروج العسكر من الحياة السياسية لا يعني ترك السلطة "متمثلة في منصب الرئاسة" بل كف أيدديهم عن مؤسسات الدولة. وبالتالي استحالة مايسمي بالخروج الآمن وعدم اختزاله في مفهوم المحاكمة فقط، وهنا يقفز إلى السطح مسألة الولاء التي تربت عليها أجهزة الدولة (الداخلية/ الجيش/ المخابرات) ومؤسساتها وأسلوب إدارتها وانحيازها إلى من يحتكر القوة إلى جانب تداخل المصالح، فهي تحتاج إلي تطهير مؤسسي وجذري وقوانين توجه إرادة عملها من سلطوية العمل وكونها أداة قمعية وعقبة في تحول المسار الديمقراطي، إلى كونها أجهزة مؤسسية تعمل لصالح الوطن والمواطن. فهل ستكون هذه المؤسسات على درجة واحدة من الولاء والانحياز لاختيار الشعب، أم أنها ستظل على ولائها القديم، وهذه إحدي الإشكاليات التي ستواجه الرئيس القادم وتضعه في جانب المواجهة مع العسكر، ويظل السؤال الرئيسي ما هو وضع المؤسسة العسكرية في الدستور القادم؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام.