د.مازن النجار \n\n مضى القرن العشرون بإنجازاته الطبية وإخفاقاته ووعود لم تتحقق بعد. انقضى القرن الماضي بدون نجاح كبير في علاج السرطان، والتهاب المفاصل، والشلل الرّعاشي (باركِنسن)، ومرض ألزهايمر، وأمراض القلب والشرايين، والبول السكري، وغيرها.\nدفع ذلك كثيراً من الباحثين إلى إعادة النظر في دراسة الأمراض وطرائق تشخيصها ومناهج علاجها، فازداد اهتمامهم بعوامل البيئة -كالغذاء مثلاً- ودورها في نشوء الأمراض وعلاجها والوقاية منها، إضافة إلى تنامي الاهتمام بالعوامل الجينية الوراثية.\nتنامت في الأعوام الأخيرة اهتمامات أكاديمية موجهة لاستقصاء دور الغذاء في الإصابة بالسرطان، أو علاجه، أو الوقاية منه. من ذلك ما كشفت دراسة طبية عن دور الغذاء في احتمالات الإصابة بسرطان الثدي لدى نساء صينيات يتناولن نظاماً غذائياً غربياً غنياً باللحوم والنشويات والسكريات.\n\n لحوم ونشا وسكر\nأفادت نتائج هذه الدراسة أن نساء شنغهاي اللاتي يتبعن نمطاً غذائياً غربياً هن أكثر تعرضاً بحوالي الضعف لمخاطر الإصابة بنوع رئيس من سرطان الثدي، هو سرطان مستقبلات الإستروجين (الإيجابي)، مقارنة بجاراتهن اللاتي يتبعن غذاء صينياً تقليدياً غنياً بالخضروات والصويا.\nولدى تحليل بيانات آلاف النساء بين عمري 25 و64 عاماً، لاحظ الباحثون أن هذه الوتيرة من مخاطر السرطان المضاعفة هي أظهر ما تكون لدى النساء زائدات الوزن في سن اليأس، واكتسبن أوزانهن الزائدة من غذاء غني باللحوم والنشويات والسكريات. \n\n ورغم جسامة النتائج، إلا أنها لم تكن بعيدة عن التوقعات.\nفالعديد من الدراسات السابقة التي أجريت على جماعات من المهاجرين في الولاياتالمتحدة خلال العقدين الماضيين قد خلصت إلى أن نمط الغذاء الغربي يفرّخ أنواعاً معينة من السرطانات، خاصة سرطان القولون، والسرطانات المتصلة بالهرمونات كسرطان الثدي والمبيض والبروستاتا.\n\n والمعلوم بحسب بيانات المعهد الوطني الأميركي للسرطان أن معدلات الإصابة بسرطان الثدي في الولاياتالمتحدة هي أعلى بأربعة إلى سبعة أضعاف منها في بلاد آسيا.\nالغذاء لا الجينات\nوجدت تلك الدراسات أن الجيل الأول من المهاجرين تماثل مخاطر إصابتهم بالسرطان (في الولاياتالمتحدة) مخاطر الإصابة به في الوطن الأم تقريباً. ولكن خلال أجيال قليلة من العيش في الولاياتالمتحدة، تصبح وتيرة مخاطر الإصابة بالسرطان مماثلة لنظيرتها بين مواطنيهم الأميركيين.\nبيد أن آسيا ليست محصنة ضد السرطان. فهناك معدلات إصابة عالية بسرطان المعدة الناجم عن ارتفاع مستويات الملح والنايترايت في الأطعمة؛ وسرطان الكبد بسبب انتشار عدوى الالتهاب الكبدي (بي) و(سي)؛ وسرطان الخياشيم، الأنف والبلعوم، الناجم عن دخان مواقد الطبخ القديمة.\nلكن المهاجرين وذرياتهم تقل مخاطر إصابتهم بهذه السرطانات الشائعة بقارة آسيا عقب انتقالهم للعيش في الولاياتالمتحدة.\n\n هذا التبدل في خارطة مخاطر الإصابة بأنواع السرطان إنما يبرز دور الغذاء والبيئة في المسألة برمتها، ويهوّن من شأن ودور الجينات أو العوامل الوراثية كعامل رئيس في مخاطر الإصابة بالسرطان. فالمهاجرون يحملون معهم جيناتهم في هجرتهم إلى الولاياتالمتحدة، لكنهم لا يحملون دائماً غذاء ونمط معيشة بلادهم.\nتوجهات وراثية\nلكن من شبه المحتم أن يصاب بعض الناس بالسرطان بصرف النظر عن نمط غذائهم. فسرطان القولون مرض وراثي بامتياز، وبالنسبة للذين يحملون داء السليلات الورمي الغدي (العائلي)، يبدأ نشوء السليلات (البوليبات) السرطانية لديهم في العشرينات. وهي حالة مرضية وراثية نادرة.\nتمكن العلماء من فرز العديد من الجينات (المورثات) ذات الصلة بالسرطان، خاصة مع ظهور الدراسات المعتمدة على مشروع الجينوم البشري والتقنيات المتاحة في السنوات الأخيرة، لاستكشاف ارتباط الأمراض بالخارطة الجينية أو الجينوم ككل.\n\n تكمن أهمية هذه الدراسات في قدرتها على التعرف على التوجهات الوراثية للشخص تجاه الأمراض، وتصميم علاجات مشخصنة على قياس وحالة المريض.\nدور الكربوهيدرات في نشوء المرض\nمن ناحية أخرى، كشف فريق من الباحثين المكسيكيين والأميركيين أن أنماط الغذاء المحتوية على كميات كبيرة من الكربوهيدرات كمصدر للطاقة قد تؤدي إلى زيادة احتمال الإصابة بسرطان الثدي لدى النساء، مقارنة بأنماط الغذاء التي تعتمد على تناول كميات متوازنة من كل من الكربوهيدرات والدهون والبروتينات.\nأجرى علماء معهد الصحة العامة بالمكسيك وجامعة هارفرد الأميركية، دراستهم على 1866 سيدة مكسيكية.\n\n ووجدوا أن السيدات اللائي يحصلن على 57 بالمائة أو أكثر من الطاقة لأجسامهن عبر تناول الكربوهيدرات هن أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي بأكثر من ضعفين (2.2) مقارنة بنظيراتهن اللائي يتناولن وجبات متوازنة.\nوأشار الدكتور وولتر ويليت، أستاذ الأوبئة بجامعة هارفرد وأحد مؤلفي الدراسة، إلى وجود شكوك سابقة لدى العلماء حول دور أنماط الغذاء في ظهور سرطان الثدي.\nعمليات كيميائية حيوية\nلذا تأتي هذه الدراسة كإحدى الدراسات الأولى التي تربط بصورة أكثر تحديداً بين العوامل الغذائية وبين ظهور سرطان الثدي، ويؤمل أن تساعد هذه الدراسة وغيرها إلى فهم أفضل للعمليات الكيميائية والحيوية التي تحدث على مستوى الخلية، وتؤدي في النهاية لظهور المرض.\n\n عزا الباحثون العلاقة بين الوجبات عالية الكربوهيدرات وظهور سرطان الثدي إلى أن الأولى تؤدي إلى زيادة إنتاج الإنسولين، وعوامل النمو الخلوي المشابهة للإنسولين في الدم.\nفعندما يتناول شخص ما حلويات أو نشويات مثلا، يحدث ارتفاع سريع في سكر الدم، يعقبه إفراز الإنسولين وعوامل نمو خلوي قد تؤدي إلى \"تسرطن\" الخلايا، أي حدوث نمو مباغت لها، لا يمكن للجسم التحكم فيه.\nورغم أن الدراسة أشارت إلى الكربوهيدرات بصفة عامة، لكنها خصت بالاهتمام \"السكروز\" أي سكر القصب الذي يتواجد في سكر المائدة ويستخدم في الحلويات، و\"الفركتوز\" أي سكر الفاكهة، باعتبارهما أكثر ارتباطاً بسرطان الثدي.\n\n وذكر الدكتور ويليت أن هذه الدراسة وإن كانت تخلص إلى وجود ارتباط لنمط الغذاء بظهور سرطان الثدي، إلا أنها ليست جازمة، وللتيقن من هذه النتائج لا بد من إجراء مزيد من البحث.\nارتباط البطاطس المقلية بسرطان الثدي\nتوصلت دراسة طبية أميركية قام بها فريق بحث من جامعة هارفرد ومستشفى بريغام للنساء في بوسطن إلى وجود ارتباط ملحوظ بين تناول النساء في سنوات طفولتهن المبكرة (قبل دخول المدرسة) لوجبات البطاطس المقلية وبين ارتفاع مخاطر إصابتهن لاحقاً بسرطان الثدي.\n\n فقد وجد الباحثون أن تناول الصغيرات لأي حصة إضافية من مقالي البطاطس أسبوعياً يزيد مخاطر إصابتهن بسرطان الثدي في المستقبل بنسبة 27 بالمائة. فالنساء اللاتي تناولن مقالي البطاطس بشكل اعتيادي في طفولتهن المبكرة هن أكثر تعرضا بدرجة واضحة للإصابة بسرطان الثدي.\nتأتي هذه الدراسة كجزء من توجه جديد لدى الباحثين مؤداه أن هناك أدلة متنامية على الدور الذي يلعبه نظام التغذية، في المراحل المبكرة من حياة النساء، في نشوء وتطور أمراض النساء في مستقبل حياتهن، كما تقول الدكتورة كارين ميكلز، مؤلفة الدراسة وأستاذ الأوبئة الإكلينيكية بجامعة هارفرد.\nقدمت الدراسة الجديدة دليلاً إضافياً على أن الإصابة بسرطان الثدي يعود زمنيا إلى المراحل المبكرة من حياة النساء، وأن العادات الغذائية خلال هذه المرحلة لها أهمية خاصة بالنسبة لخفض مخاطر الإصابة. كذلك، خلصت الدراسة إلى وجود ارتباط محدود بين تناول الحليب كامل الدسم يوميا وبين انخفاض مخاطر الإصابة بسرطان الثدي.\n\n دهون مشبعة وأحماض متعددة الدهون\nقام الباحثون بتحليل البيانات المأخوذة من 582 سيدة أصبن بسرطان الثدي في عام 1993، إضافة إلى 1569 سيدة غير مصابة بالمرض، وذلك بقصد استكشاف أي علاقة أو ارتباط محتمل بين الإصابة بسرطان الثدي والتغذية في سنوات الطفولة المبكرة. وكانت جميع النساء المشاركات في الدراسة مشاركات أيضا في مشروع بحثي كبير هو \"دراسة صحة الممرضات-2\".\nحصل الباحثون على بيانات التغذية أثناء طفولة السيدات المشاركات من أمهاتهن اللاتي أجبن على أسئلة استبيان حول العادات الغذائية لبناتهن في الفترة العمرية من 3 إلى 5 سنوات. وقد أشارت الأمهات إلى معدلات تناول صغيراتهن لقائمة من ثلاثين صنفا من المأكولات والمشروبات.\n\n وبينما لم يعثر الباحثون على ارتباط بين تناول البطاطس (عموما) ومخاطر الإصابة بسرطان الثدي في سن النضج، لاحظ الباحثون أن طريقة إعداد وجبات مقالي البطاطس لها دلالة خاصة لأنها تنطوي على قلي شرائح البطاطس في زيوت تحتوي على مقادير عالية من الدهون المشبعة والأحماض متعددة الدهون.\nمن ناحية أخرى، نبه الباحثون إلى ضرورة الحذر في تأويل هذه البيانات حول الارتباط بين تناول مقالي البطاطس وارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان الثدي، ذلك أنها تعتمد على صحة ما تذكرته الأمهات من العادات الغذائية لصغيراتهن في طفولتهن المبكرة.