\r\n ومعلوم أن الإرهاب هو العنوان الأكبر للتحديات التي بات علينا أن نواجهها معاًً، ومعه الجريمة المنظمة والمخاطر الصناعية، فضلاً عن تلك المتصلة باختلال عوامل الطبيعة، وهناك أيضاً مخاطر أخرى زعزعت الاقتصادات والمجتمعات بسبب العولمة، فهذه إضافة لما لها من تأثير على الأسواق، تخضع الشعوب والأفراد بل الأسر لمحن بشرية صعبة، والى ذلك فمن الممكن لنا معاً أن نحجم أشكال الخلل هذه ونتمكن من مساندة تحديث البنيان الاقتصادي والاجتماعي على أنواعه في الدول المتوسطية، فضلاً عن تيسير تكامل اقتصادي أفضل على المستوى المحلي والإقليمي، مثلما يمكننا أن نجعل المنطقة الأوروبية المتوسطية مكاناً للحوار بين المواطنين وللتعاون بين الاقتصادات، وهذا ما كان يرمي إليه روبير شومان، أحد الآباء المؤسسين لأوروبا، عندما كان يقول بنفس المعنى، متحدثاً في عام 1950 عن حدود أوروبا «إن هذه الحدود ينبغي أن تصبح خطوط تواصل، تتنظم وتتكاثف من خلالها أشكال من التبادل المادي والثقافي، بدلاً من أن تكون حواجز تفصل في ما بيننا». \r\n \r\n ومن هنا فبلادنا عازمة، بكل تصميم، على إعطاء الشراكة الأوروبية المتوسطية انطلاقة جديدة، وهذه هي الفكرة التي سوف أدافع عنها أمام شركائنا في 30 و31 مايو(أيار) في لوكسمبورغ، بمناسبة انعقاد المؤتمر الوزاري الأوروبي المتوسطي. \r\n \r\n وإذ لم يعد يفصلنا عن الذكرى العاشرة لتأسيس مسيرة برشلونة سوى بضعة أشهر، يبدو لي أن الوقت الآن أكثر ملاءمة لإعادة إطلاق الحوار، لا سيما أن الشروط لتعاون أكبر وأوسع أصبحت اليوم متوفرة. \r\n \r\n وبداية، لقد بات ارتباطنا ببعضنا البعض محسوماً، وأكبر دليل الأواصر الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تجمع بين مختلف بلداننا. فالمسائل الأمنية والدفاعية، التي هي أصلاً مسائل حساسة، قد أدت، بحد ذاتها، إلى تشاور منتظم يجري في إطار الشراكة القائمة في ما بيننا. وتشير كل هذه الأمور إلى المقياس الحقيقي الذي بنيت عليه الثقة المتبادلة القائمة اليوم بين ثلاثة وخمسين بلد من ضفتي البحر الأبيض المتوسط. \r\n \r\n ومن ثم، فالاتحاد الأوروبي شريك صلب وموثوق به، وتستطيع الدول المتوسطية الاعتماد عليه على الدوام. ففضلاً عن كونه أول تكتل اقتصادي في العالم، وأول قوة تجارية عالمية، يعد الاتحاد الأوروبي أيضاً أول مساهم عالمي في المساعدات الدولية. وعليه فإن مبلغاً قدره 10 مليارات يورو، قد تم صرفه منذ عام 1995 إلى شركاء الاتحاد الأوروبي من بلدان المتوسط، وذلك في إطار برنامج «ميدا» (برنامج المساعدات للتنمية) وحده، ويضاف إلى ذلك مبلغ 12 مليار يورو قدمها بنك الاستثمار الأوروبي على شكل قروض. \r\n \r\n وفي المقابل، وبغض النظر عن الأرقام، تجدر الإشارة الى أن أوروبا تمثل برنامجا سياسيا لم يسبق له مثيل، ولها رؤية معينة للعلاقات الدولية، فهي لا تدافع عن أية نزعة إمبريالية تسلطية وقد تعلمت الدرس من المآسي التاريخية، ومن هنا فهي واحة سلم وحرية وديمقراطية لما يقرب من 450 مليون نسمة، وتعتمد بشكل أساسي على التعاضد. هذا التعاضد الذي سمح لفرنسا وألمانيا، بما كان بينهما من عداوة قديمة متأصلة، أن تتحولا إلى آلة الدفع المحركة لأوروبا. وهذا التضامن هو الذي سمح أيضاً، تيمناً بما قاله روبير شومان: «بأن تفقد الحرب أسباب وجودها، لا بل حتى مجرد الميل إلى التفكير بها». \r\n \r\n ومن روح التضامن هذه نستلهم أيضاً الرؤية الأوروبية للعلاقات الدولية، وهي رؤية متعددة الجوانب، قوامها الحق والقانون، والتسوية السلمية للصراعات، واحترام الأممالمتحدة. كما أنها تستلهم، في النهاية، العلاقات التي ترغب الدول الأوروبية في إقامتها مع جيرانها، والإشارة هنا لعلاقات مسالمة مبنية على الشراكة، يتسنى من خلالها، من دون التنكر لواجب الإبقاء على الذكرى، تخطي معاناة الماضي، لا سيما تلك التي ولدتها مرحلة الاستعمار. \r\n \r\n ولكي يكتب لمشروعنا النجاح يتعين أن يستند إلى عملية تقييم مشتركة وموضوعية، نتبين فيها ما تحقق من مكتسبات، ولذا فلا بد لأهدافه أن تكون واضحة، ومحددة بتوافق مشترك عليها، في كل من المسارات الثلاثة التي تتشكل منها عملية برشلونة، مثلما يتعين على مشروعنا أن يواكب إعلاما منظورا يظهر على الملأ، بحيث تتبينه وتقرأه على نحو أفضل ومختلف عناصر المجتمع المدني الفاعلة. \r\n \r\n ويكمن المسار الأول في حوارنا السياسي. وفيه يتحتم علينا العمل معاً، وبصورة أنشط، على الترويج لدولة القانون، وعلى ترسيخ الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، وأن نبرهن على مزيد من العزم في مجال الأمن، ومكافحة الإرهاب، والحماية المدنية والوقاية من الاختلال المتصل بالعوامل بالطبيعية. \r\n \r\n أما ساحة العمل الثانية: فهي تتناول الميدان الاقتصادي، وتحديداً، التحرك الذي يتعين علينا أن نقوده من أجل تنمية مستدامة، مولدة للثروات ولفرص العمل. ووصولاً إلى هذا الغرض، يتعين علينا أن ندرس الوسائل الكفيلة بتدعيم التكامل الاقتصادي والتجاري بين دول الجنوب، وتجاه بعضها البعض، وهو التكامل الذي طال أمر تجسيده عملياً وبشكل ملموس، إضافة إلى دراسة آفاق مالية وتجارية جديدة لخفض حدة فقدان التوازن بين شمال الكوكب وجنوبه. والى ذلك فقد بات أمر منطقة التبادل التجاري الحر، الأوروبية المتوسطية، محسوماً وستقام بحلول عام 2010، فيما أصبح مطلوبا منا أن نحشد الجهود من أجل التعجيل في إنشائها، من أجل تحويل المدخرات، وجذب الاستثمارات، وتعزيز فعالية الأجهزة المالية الضخمة التي يضعها الاتحاد الأوروبي في تصرف وخدمة دول المتوسط. \r\n \r\n إن التنمية المستدامة تمثل تواصلاً لترابطنا، فيتحتم علينا تدعيم فعالية المساعدات، مهتدين إلى طريقة تطويرها، ومركزين، ميدانياً، على تنمية الممارسات الحميدة لقيادة اقتصادية متحكمة، تلتزم بإعادة توزيع أكثر إنصافا لثمار النمو الاقتصادي. \r\n \r\n ولم لا نستلهم دروسا، في إطار تحديث الجهاز المالي للشراكة القائمة بيننا، من السياسة الإقليمية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي؟ فبدءا من بعض المناطق، التي تستهل فيها التجربة على الضفة الجنوبية، قد يكون من شأن هذه السياسة التعاضدية، بالمعنى الصحيح، والتي أثبتت أنها ناجعة بقدر كبير على قارتنا، أن تؤمن في آخر المطاف تلاحما اقتصاديا واجتماعيا أفضل، وربما جغرافيا، أيضا، يمتد ليشمل حوض المتوسط بمجمله. \r\n \r\n وأخيراً، وبالنسبة للمسار الثالث لتعاوننا، فيتوجب علينا أن نوليه اهتماما كبيرا، فهو يتناول التربية والحوار بين الحضارات. ومن البديهي القول، بأنه أياً كانت الجهود التي سيتسنى لنا بذلها على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، فقد لا تكون قابلة للاستمرار إذا لم نعمق معرفتنا بالآخر وبتاريخه وقيمه. وهناك هيئات جديدة قد تم استحداثها أخيرا، مثل هيئة يوروميد Euromed غير الحكومية، أو مؤسسة آنا ليند Anna Lindh من أجل الحوار بين الثقافات، التي تم افتتاحها حديثاً في مدينة الإسكندرية. فلنتقن إذن التعاون على نحو أفضل مع هذه المؤسسات، ولنتقن استخدام مواردها على أفضل وجه! \r\n \r\n إن صقل وتثقيف الأذهان هو الحل للتنمية المتوسطية، فمن خلال التأسيس لحوار تعددي وناقد سوف نتمكن من إعادة ربط خيوط التراث الفكري، والثقافي، والروحي المشترك الذي ورثته جميع شعوب المتوسط من الشمال إلى الجنوب. فمن دانتي في مجال الشعر، إلى سرفانتس في فن الرواية، مروراً بسقراط في علم الفلسفة وابن خلدون في علم التاريخ والاجتماع، وابن عربي في الروحانية غير الدنيوية، وابن بطوطة، الرحالة الذي لم يعرف التعب، بات البحر الأبيض المتوسط، عبر الفنون والعلوم والفكر والديانات المنزلة الثلاثة، ذاك المهد الذي نشأ عليه وعينا لمصائرنا المتكافلة، لأنها مترابطة بعزم وإقدام. \r\n \r\n وهذا التعاضد، هو ما يتحتم علينا اليوم إعطاؤه قوة دفع جديدة، من خلال السعي إلى طريقة حديثة لتعاون أوثق، ومثبت أكثر، في واقع العالم المتوسطي. وعليه، فالأمر إذاً، وفي النهاية، هو في البقاء أوفياء لما يظل يمثل هدفنا الأهم، الذي نعطيه الأولية، منذ انطلاق مسيرة برشلونة: وهو تفعيل شراكة شاملة ودائمة تكون في خدمة السلام والرخاء والتفاهم المتبادل بين ضفتي المتوسط. \r\n \r\n * وزير خارجية فرنسا خاص ب «الشرق الأوسط» \r\n