ولقد كان اللورد كرومر، بمعنى من المعاني، أقوى من الحكومة البريطانية، بل كان هو الحكومة البريطانية ذاتها، يصدر أوامره هنا وهناك، ويرسخ أقدام الاحتلال سنوات، بدا للكثير من المراقبين آنذاك انها ستمتد للأبد، وربما لن تشق طريقها أبداً إلى الانتهاء. \r\n \r\n ولعل الكاتب الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل هو الذي روى حكاية بطلها اللورد كرومر حيث كان قد حضر حفل زفاف لأسرة مصرية عريقة من كبار ملاك الأراضي، وكان يجلس بجوار اللورد كرومر سعد زغلول وكانت تجمع بينهما صداقة حميمة في تلك الفترة، وكان المغني الشهير عبده الحامولي يغني طقطوقة منتشرة في ذلك الزمان تقوم على ترديد مقطع يقول «حبيبي راح هاتوه يا ناس ليا». \r\n \r\n وسأل اللورد البريطاني العتيد كرومر عن معنى الكلمات التي يرددها المطرب الشعبي الكبير، وقام الباشا سعد زغلول بترجمتها له، وعقد الداهية الانجليزي كرومر حاجبيه من الدهشة وقال لصديقه سعد: حتى في شئون الغرام لا يكلف العاشق عندكم نفسه القيام بمهامه الخاصة والسعي لمحبوبته وإنما يطالب الناس أن يحضروها له؟ \r\n \r\n وقد أراد اللورد أن يقول إن شخصية المواطن في هذه المنطقة شخصية عاجزة تلقي بعبئها على الآخرين حتى في أدق خصوصياتها ولعله يخلص من ذلك العجز في الحب والعشق إلى العجز في السياسة وغيرها من الشئون الأخرى. \r\n \r\n الرجل والتاريخ \r\n \r\n في أوج الامبراطورية البريطانية قبيل الحرب العالمية الأولى برز اثنان فقط ولمع اسماهما فطغيا على أقرانهما من الحكام والإداريين للأراضي التي كانت تحتلها بريطانيا، واللورد كيرزون نائب الملك في الهند سابقاً واللورد كرومر الذي اقترن اسمه صراحة بالاحتلال البريطاني لمصر. \r\n \r\n \r\n في تلك الأيام التي كانت القاهرة وكلكتا تمثلان قطبي الحكم البريطاني في آسيا وافريقيا، كان اللورد كرومر بوجوده الإداري القوي واللورد كيرزون ببريقه وألمعيته يتألقان في مجال إدارة الحكم الاستعماري. \r\n \r\n \r\n إلا انه في حين أن كيرزون ظل على تألقه حتى بعد وفاته على صفحات التاريخ، وظل محاطاً بكل البريق والشهرة والأضواء التي كان محاطاً بها في حياته، إلا أن الشهرة الواسعة التي كانت تحيط باللورد كرومر قبل الحرب العالمية الأولى راحت في طي النسيان. \r\n \r\n \r\n حتى السيرة الذاتية الرسمية الوحيدة التي كتبها الماركيز حاكم مقاطعة زيتلاند الهندية ونشرها عام 1932 لم تسلم من النقد والتقريع. والأكثر من ذلك أن اللورد كرومر ظل يمثل دور الوغد على خشبة المسرح في تاريخ العلاقات غير السعيدة وغير الودودة التي كانت بين مصر وبريطانيا. \r\n \r\n \r\n ظل اللورد كرومر هو القائد والمحرك الرئيسي لما يجري على أرض مصر طيلة نحو ربع قرن من الزمان (1883 1907) وكان هو الآمر الناهي، وكان لقبه الرسمي المندوب السامي البريطاني. \r\n \r\n \r\n ويعلم البريطانيون جيداً ان كرومر ظل جاثماً على أنفاس المصريين طيلة 25 عاماً حتى ان كاتباً انجليزياً قال عنه إن المصريين تعلموا كيف يكرهون هذا الرجل، بل وصفه بأنه أكثر الشخصيات كراهية عند المصريين. \r\n \r\n ويدلل المؤلف على هذه الكراهية بسرد واقعة تؤكد هذا المعنى فيقول إن مجموعة من الطلبة المصريين ذهبوا إلى مدينة نورفولك البريطانية، مسقط رأس اللورد كرومر، وتوجهوا إلى مسئول الأرشيف المحلي للمدينة عام 1998 وسأله أحدهم: أين دُفن اللورد كرومر؟ فسألهم: لماذا؟ فأجابوا: نريد أن نبصق على قبره! \r\n \r\n ويقول المؤلف إن هذه الواقعة تدلل إلى أي مدى بلغت كراهية المصريين للورد كرومر. ويتساءل: لماذا يحاول البعض النبش في الماضي والتاريخ؟ وعلى وجه التحديد في قبر رجل يندر أن يُذكر اسمه إلا مقترناً بمصر، ولا أحد يتذكره أو يعرف من هو إذا ما ذُكر اسمه خارج هذا السياق، وان ما اكتسبه من شهرة واسعة مضى معه إلى قبره. \r\n \r\n ويحاول المؤلف جاهداً أن يبحث عن تفسير لما يحدث من محاكمة الرجل، بعد أن ووري التراب، فيقول في تفسيره إن أحد أسباب ذلك هو اننا الآن نعيش في زمن العولمة ونمر بظروف مشابهة بتلك التي عاش فيها اللورد كرومر طوال الأربعين عاماً التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فكلا الفترتين تتميزان بأنهما شهدتا نمواً اقتصادياً متلاحماً، أهم مقوماته الإدارة المالية العالمية والممارسات المالية ذات الطابع العالمي والقروض الميسرة والانفتاح وما شابه ذلك. \r\n \r\n ويضيف المؤلف أن اللورد كرومر، باعتباره سليل عائلة شهيرة كانت تعمل في مجال البنوك ومفوضاً على الدّين المصري العام ووزيراً للمالية في الهند، لعب دوراً مهماً في جميع التطورات التي شهدها القرن التاسع عشر، حيث جمع بين الأفكار الاقتصادية المتحررة حول التعريفات والضرائب المنخفضة والميزانيات المتوازنة وبين المباديء السياسية والثقافية المتغيرة، وأضاف إلى ذلك كله كبرياء الطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها. \r\n \r\n ويعدد المؤلف الأسباب التي جعلته يكتب السيرة الذاتية للورد كرومر فيشير إلى أن كرومر ومقر إقامته على نيل مصر كان جزءاً من القاهرة التي قمت بزيارتها في الخمسينيات عندما كانت المظاهرات تملأ الشوارع وتحمل لافتات تطالب برحيل آخر القوات البريطانية من قناة السويس التي كانت تقيم على ضفافها منذ عام 1882. \r\n \r\n ويسوق المؤلف سبباً آخر لتأليفه هذا الكتاب، فيقول: إن اللورد كرومر كان هو موضوع أول دراسة أكاديمية لي، وكان بعنوان «تأثيرات اللورد كرومر وتجربته في الهند على السياسة البريطانية في مصر من 1883 إلى 1908». \r\n \r\n ويشير المؤلف إلى أنه لم يكتف بقراءة كل ما كُتب عن اللورد كرومر، بل تعقبه في الأماكن التي عاش فيها في كل من مالطا وكالكتا ودخل البيوت التي أقام فيها والمكاتب التي عمل بها، لا لشيء إلا للحصول على أكبر قدر من المعلومات والمعايشة الحقيقية لواقع هذا الرجل وممارساته اليومية، من أجل أن يكون هذا الكتاب مرجعاً حقيقياً لسيرته، ومن أجل أن يكوّن فكرة صادقة حول رجل اختار أن يقيم في مدن مشبعة بالحر والرطوبة اختلط فيها النجاح بالتعب، شاهد فيها مشروعات هائلة مثل سد أسوان الأول، وكوارث طبيعية مثل تلك المجاعة التي شهدتها الهند. \r\n \r\n وهو يشير كذلك إلى أن كتابة سيرة مثل هذا الرجل تعني مواجهة العديد من التحديات، فمن ناحية كونه شخصية عامة فإن تأثيره وسياساته على حياة الملايين من المصريين (وقبلهم على حياة 200 مليون هندي) لابد أنه جعل منه شخصية مثيرة للجدل. \r\n \r\n ويقول المؤلف إن ايفيلين بارنغ الذي أصبح اللورد كرومر عام 1892 كان بالفعل شخصية مثيرة للجدل، وقد تجلى ذلك في أمرين: الأول عندما أقدم على الزواج مرة أخرى وهو في أوائل الستينيات من عمره، ثم بعد ذلك عندما شعر بأن أجله قد دنا، فبدأ يدون مذكرات ويصنع لنفسه ملفات وسجلات يهتدي بها كل من يريد أن يكتب عنه شيئاً بعد وفاته أو كل من يريد أن يعرف شيئاً عن حقيقة الرجل. \r\n \r\n لماذا لا نتذكره؟ \r\n \r\n تعلّم اللورد كرومر مهارات وفنون إدارة المستعمرات، ويبدو انه ورث هذه المواهب أو ان عائلته قامت بتدريبه على ذلك، بل كانت فيما يبدو تعده لمهمة من هذا القبيل. \r\n \r\n \r\n وفي هذا الصدد يقول المؤلف إنه عندما أدت سياسات الخديوي اسماعيل، مؤسس مصر الحديثة، إلى أفلاس مصر، وأطيح به من عرشه، ثم تعيين اللورد كرومر مشرفاً على ديون مصر ومراقبة سداد هذه الديون. \r\n \r\n \r\n وهو يرى ان اللورد كرومر نجح في هذه المهمة تماماً، وبعد ذلك سافر إلى الهند، وقضى بها 11 عاماً، ثم عاد إلى مصر مرة أخرى قنصلاً بريطانياً عاماً ومندوباً سامياً. \r\n \r\n \r\n ويصف المؤلف اللورد كرومر بأنه رجل متعدد المواهب الدبلوماسية والادارية، عاش في أوقات مثيرة بالفعل، فقد أرادت الحكومة البريطانية تأمين طريق قناة السويس إلى الهند، وأي قنصل بريطاني في مصر مكانه لم يكن ليفعل سوى تنفيذ الأوامر الصادرة إليه من حكومته، لكن اللورد كرومر وجد إمكانات أكبر لكي يصبح مهندساً سياسياً، بل وحاكماً أوحد لحكومة الوصاية المبطنة، بحيث تكون مصر بلداً يحكمه المصريون ظاهرياً، لكن الحاكم الفعلي هو اللورد كرومر نفسه. \r\n \r\n \r\n ويتساءل المؤلف: رجل بهذه القامة وهذه التجربة المثيرة سواء اتفقنا عليها أم اختلفنا.. لماذا لا نتذكره؟ \r\n \r\n \r\n ويقول في معرض الرد على هذا السؤال إن اللورد كرومر على مدى ربع قرن لم يكن يقدم فقط النصائح والارشادات للحاكم المصري، لكنه كان أيضاً يراقب ويتابع سير التغلغل البريطاني في جميع مناحي الحياة بمصر ومن أجل أن يقمع الحركات والثورات الوطنية وتعيين الجنرال غوردون في السودان ووفاته بعد ذلك، ومهمة كيتشنر للاستيلاء على السودان. \r\n \r\n \r\n وقد استطاع المؤلف أن يحصل على العديد من الوثائق والخرائط التي لم تنشر من قبل، والتي كان كرومر يقوم بإعدادها في كل مرحلة من مراحل الخطة الاستعمارية البريطانية. \r\n \r\n ويشير إلى أن اللورد كرومر على الرغم من كراهية المصريين له، إلا انه ترك بصمات واضحة، من بينها انه منع العثمانيين من الاستيلاء على سيناء وكذلك المساهمة في إنشاء البنك الأهلي المصري. \r\n \r\n إنجازات \r\n \r\n يشير المؤلف إلى مدى تأثير كرومر السياسي الكبير على مصر طوال فترة حكمه التي بلغت نحو ربع قرن من الزمان، فإلى جانب الدور الذي لعبه في اقناع الحكومات البريطانية المتعاقبة بمواصلة الاحتلال البريطاني لمصر، فإن له انجازات أخرى، كما يراها المؤلف، ويشير إلى انجازين منها يرى أنهما يتمتعان بأهمية استثنائية: \r\n \r\n الأول: ان سياساته أدت إلى تخليص مصر من سيطرة العثمانيين والسيطرة العالمية على الرغم من أن الثمن كان زيادة السيطرة والهيمنة البريطانية. \r\n \r\n الثاني: قوة الدفع التي نتجت عن هذه السياسة، والتي ساهمت بقدر كبير في تأجيج القومية المصرية، وخاصة بين أبناء الطبقة المتعلمة. \r\n \r\n ويقول المؤلف إن اللورد كرومر كان صانع قرار، وكان يرى ان تمتعه برؤية أي رؤية يعد أفضل كثيراً من أن يكون بلا رؤية أو هدف على الاطلاق. \r\n \r\n وكان يتمتع بثقة زائدة بالنفس وبالسياسات التي ينتهجها وبالقرارات التي يتخذها. \r\n \r\n ويشير المؤلف إلى أن اللورد كرومر ساهم كثيراً في ترسيخ الاستعمار البريطاني لمصر، وانه لولا اللورد كرومر ما بقي البريطانيون في مصر هذه الفترة الطويلة. فهو بعد أن سافر إلى الهند عاد إلى مصر مجدداً في خريف عام 1887 وكان أمامه هدفان لابد من تحقيقهما: \r\n \r\n \r\n الهدف الأول: هو إحكام السيطرة البريطانية على مصر، خاصة في مجالات معينة مثل المحاكم والشرطة. \r\n \r\n \r\n الهدف الثاني: هو شن حملة لاقناع قادة الحزب الحاكم في بريطانيا واتباعهم في لندن ان البريطانيين يحكمون مصر بطريقة أفضل من أن يحكم المصريون أنفسهم. \r\n \r\n \r\n دور نازلي \r\n \r\n \r\n يوضح المؤلف انه على الرغم من السياسات التي كان ينتهجها اللورد كرومر في مصر والتي أثارت غضب المصريين وحنقهم، إلا انه كانت له علاقات وطيدة مع نخبة المجتمع في مصر، وان معظم هذه العلاقات كانت من خلال الأميرة نازلي ابنة أخت الخديوي اسماعيل التي كانت تقيم في دارة فخمة وراء قصر عابدين. \r\n \r\n \r\n وقد وصف الجنرال جرينفيل الأميرة نازلي بأنها كانت ترتدي «اليشمك الحر» وكانت وثيقة الصلة باللورد كرومر. \r\n \r\n \r\n ويقول عنها انها على الرغم من انها كانت ذات يوم من مؤيدي الحركة العرابية، إلا انها سرعان ما انقلبت إلى النقيض وأصبحت من مؤيدي الاحتلال البريطاني. \r\n \r\n ويقول المؤلف إن الأميرة نازلي كانت تمد اللورد كرومر بكل المعلومات التي ترى انها قد تكون مفيدة له حتى دون أن يطلب منها ذلك. \r\n \r\n الأكثر من ذلك انها لعبت دوراً مهماً في تعريف اللورد كرومر شخصيات مصرية كانت ترى من وجهة نظرها ضرورة أن يتعرف بها لكي يستفيد من علاقاته بها بطريقة أو بأخرى، وان ذلك سوف يساهم في تكريس الاحتلال البريطاني لمصر. \r\n \r\n وقد واجه اللورد كرومر مشكلتين كبيرتين في مارس 1892، كان لابد من التغلب عليهما قبل أن يرسخ أقدامه في مصر بطريقة دائمة: \r\n \r\n المشكلة الأولى: تمثلت في وفاة الخديوي توفيق في يناير 1892 وانتقال الحكم إلى ابنه غير المحنك عباس حلمي الذي عُرف فيما بعد باسم عباس الثاني. \r\n \r\n أما المشكلة الثانية: فكانت تتمثل في بدء انتشار فكرة الانسحاب البريطاني من مصر في لندن. \r\n \r\n هاتان المشكلتان اقترنتا بحقيقة أن اللورد كرومر كان في حاجة إلى تأييد كامل من لندن للتعامل مع معارضة عباس الثاني للاحتلال البريطاني. \r\n \r\n واستطاع اللورد كرومر بدهائه السياسي أن يحصل خلال عشر سنوات من الاحتلال من الخديوي توفيق شريكاً مثالياً للبريطانيين، حتى قيل عنه في ذلك الوقت ان «بريطانيته» كانت تتزايد عماً بعد آخر. \r\n \r\n علاقات مع النخبة \r\n \r\n لقد استطاع المؤلف ببراعة أن يتناول سيرة اللورد كرومر خلال فترة حكمه وتحكّمه في مصر طيلة ربع قرن، واستطاع أيضاً أن يرسم لنا خريطة علاقاته مع نخبة المجتمع في مصر وأن يختار منها ما يساهم في ترسيخ أقدام الاستعمار البريطاني في مصر. \r\n \r\n واستطاع المؤلف أن يذكر لنا العديد من الحقائق التي نقرأها لأول مرة، واستطاع الحصول عليها من الأرشيف الخاص لعائلة اللورد كرومر، ومن خلال معايشته للأماكن التي عاش فيها كرومر نفسه في مصر والهند. \r\n \r\n «اللورد كرومر» كتاب أقرب إلى وثيقة، يهمنا جميعاً كعرب أن نقرأه على الرغم من كل المعاناة التي عاناها المصريون من هذه الشخصية التاريخية طوال الفترة التي ألقت فيها بظلالها على النيل من مقرها سييء الصيت في غاردن سيتي. \r\n \r\n